إن أخر التدريبات العسكرية التي خاضتها الدول الكبرى أو المنظمات الإقليمية لم تكن أكبر حجما. ففي نوفمبر الماضي قام الناتو بتنظيم مناورة تاريدنت جنكشن في إسبانيا اشترك فيها أكثر من 30 دولة لكن عدد الجنود لم يتجاوز 36 ألف جندي. كما شهد مارس العام الماضي تدريبات وصف حجمها بأنها "غير مسبوق" ضمت 315 ألف جندي كوري جنوبي وأمريكي ولكنها كانت تدريبات بين دولتين هناك تطابق كبير بين معداتهم العسكرية وتربطهم معاهدات عسكرية وتدريب مشترك منذ عام 1997. ولكن أن يحدث ذلك بين عشرين دولة لا يربطها اتفاقية دفاعية موحدة ولا تنظم جميعها تحت منظومة إقليمية واحدة ولم يسبق أن جمعها تدريب عسكري واحد. وعلى الرغم من أن تمثيل بعض الدول كاد يكون رمزيا، فإن جمع الإرادة السياسية لتلك المشاركة في حد ذاته أمر بالغ الأهمية.
لقد تفاوتت ردود الفعل الإعلامية مع مناورات "رعد الشمال" من وصفها على أنها مجرد عمل "استعراضي ولا يعني شيئا"، إلى انتقادها على أنها محاولة "لبدء حرب عالمية ثالثة في المنطقة" ولكن تقدير أهمية تلك التمرينات العسكرية غير المسبوقة يتطلب النظر إلى الظروف السياسية والاستراتيجية التي تحيط بها.
ويمكن النظر إلى عدة عوامل أساسية كمحددات للسياق الاستراتيجي لتدريبات رعد الشمال:
رعد الشمال ضمت 20 دولة تم تصويرها على أنها دول إسلامية سنية ولكن الناظر لها يرى أنها دول أبرزت البعد الإقليمي للتهديدات التي تواجه المنطقة حيث أنها ضمت دولا من آسيا وأفريقيا وجميعها دول حدودها تتماس مع مناطق صراعات أو انتشار لمجموعات مسلحة. إن آسيا وأفريقيا هي أكثر القارات في العالم تعرضا للصراعات فمن داعش إلى الشباب فبوكو حرام وحزب الله (سواء في لبنان أو العراق أو دول الخليج أو حتى نيجيريا) فإن عدم الاستقرار الذي تسببه الجماعات المسلحة غير الحكومية هو سمة المنطقة.
التواجد الأفريقي في تلك العمليات يشير بوضوح إلى أهمية أفريقيا في المحيط الاتيجي العربي والخليجي حيث أن العديد من التحديات التي تواجهها الدول العربية ترتبط بشكل عضوي بأفريقيا سواء كان ذلك على مستوى تهديد الحوثي بأغلاق باب المندب أو الدور الذي لعبه القراصنة في الصومال أو احتمال انتشار داعش جنوبا من ليبيا إلى وسط أفريقيا. وهذا الطرح الذي يربط بين الأمن الإقليمي العربي والأفريقي ويتعدى الدول الأعضاء في الجامعة العربية له دلالات واسعة حول مدى الثقل الإقليمي الذي تمثله الدول العربية واتساع حيزها الاستراتيجي خارج نطاق القوى الإقليمية الأخرى.
الغياب الإيراني عن تلك المناورات جعلها تبدوا مستهدفة من تلك المناورات وعليه تم توصيفه المناورات على أنها تحالف سني على الرغم من أن دول مختلفة منها باكستان لديها عدد كبير من الشيعة في قواتها المسلحة. غير أن مناورات رعد الشمال جاءت في توقيت تحاول فيه إيران أن تدفع بقوة مشاركتها في ملف الأمن الإقليمي وقدرتها على أن تكون جزء من حل الأزمات الأمنية في المنطقة في حين أنها جزء أساسي من تلك الأزمات.
عدم مشاركة أي قوة غربية في التدريبات يشير بشكل أساسي إلى أن المنطقة تنظر إلى تنمية قدراتها الذاتية في العمل العسكري المشترك بمعزل عن حلفائها التقليديين، ويرتبط ذلك بالتغير الاستراتيجي الأمريكي في المنطقة وقرارها إعادة النظر في حجم تواجدها العسكري ما خلق فراغا أمنيا تحاول إيران تحديدا أن تستغله لتوسعة نفوذها الإقليمي في المنطقة وفرض دورا أمنيا إقليميا لها وهو ما حدا بدول المنطقة لأن تطور قدرات استجابتها لتلك التحديات ذاتيا.
التواجد الروسي في العمليات ضد داعش في سوريا والذي جعل مكافحة الإرهاب أحد جسور التدخل العسكري في المنطقة. وقد هدد التواجد الروسي في سوريا، ودعم الرئيس بشار المباشر إلى تعقيد الأوضاع وخلق احتكاكا مع تركيا هدد بلجوء تركيا للبند الخامس في اتفاقية دول الناتو ما يستدعي تدخل حلف الناتو لمساندة تركيا عسكريا ضد أي هجوم روسي. وقد كان إعلان السعودية عن تأسيس تحالف إسلامي ضد الإرهاب جزء من الصورة الأوسع لتحمل المنطقة مسئولية استعادة الإسلام ممن الإرهابيين ومنع تواجد مجموعات مثل داعش من أن تكون عامل استقطاب لتدخلات عسكرية قد تفاقم الوضع أكثر مما تعالجه.
إن تحديد هدف "التعامل مع القوات غير النظامية والجماعات الإرهابية" كهدف أساسي من تمرينات رعد الشمال يشير إلى فهم أدق لطبيعة التهديدات والتي لا تركز فقط على الجماعات الإرهابية ولكنها تأخذ في عين الاعتبار القوات غير النظامية من مليشيات وأذرع عسكرية للأحزاب السياسية والتي تمثل أحد أهم عناصر عدم الاستقرار في المنطقة.
إن التحدي الأمني الذي أدى إلى تواجد أمريكي وروسي وأوربي في المنطقة يتطلب أن تقف دول المنطقة جميعا في وجهه، وربما كنا اليوم، وبعد رعد الشمال، أقرب لتعاون عسكري يجمع دول المنطقة ويبني قدراتها الدفاعية ويؤسس لقدرتها على التعامل مع التهديدات التي تمر بها وتلك الناشئة.
إن الظروف التي تمر بها الدول العربية اليوم أقرب للظروف التي مرت بها أوروبا في منتصف القرن الماضي والذي أدت لنشوء تحالف الناتو. إن تهديد القوى الإقليمية التي تصر على بناء قواتها العسكرية والتدخل عن طريق وسائل الحرب اللامتماثلة، لاسيما المجموعات المسلحة والإرهابية، سيؤدي لتوتر إقليمي أوسع ما يتطلب تعاونا إقليميا قبل التعاون الدولي للتصدي له
وقد جاء إعلان الجامعة العربية عن تأسيس القوة العربية المشتركة في قمتها المنعقدة في شرم الشيخ في 2015 وما تلاه من توقيع عدد من الدول على بروتوكول تأسيس تلك القوة بمثابة قرار تأسيس "ناتو عربي" وهو قرار رآه العديد من الناس جزء من الإرث اللفظي للجامعة العربية التي تقول أكثر مما تفعل لاسيما وأن مجلس الدفاع المشترك كان جزءا من معاهدة الدفاع المشترك والتعاون الاقتصادي التي وقع عليها أعضاء الجامعة العربية في 1950. إلا أن مناورات رعد الشمال يبدوا وأنها تجاوزت لفظيات الجامعة العربية وتجاوزت صلاحياتها المتمثلة في نطاق الدول ال 22 للجامعة العربية وارتقت لتحديات المنطقة وجوارها الاستراتيجي.
ورغم أن عمليات "رعد الشمال" قد انتهت في العاشر من مارس 2016 فإنها مرشحة أن تكون نواة تنسيق عسكري أمني مهم في منطقة تحوطها من المخاطر بقدر ما فيها من الإمكانات، وقبل التفكير في مرحلة "القوات المشتركة" فإن تحول التمرينات "رعد الشمال" إلى تمرين سنوي له لجنة تنسيقية تعقد بشكل مستمر للاستفادة من نتائج ودروس تلك التمرينات لرفع درجة الاستجابة ومعالجة جوانب الخلل في التكامل والاتفاق على بروتوكولات التعامل وعقد مناورات جانبية خلال السنة بشكل ثنائي أو متعدد لعمليات متخصصة سيمثل أرضية قوية لمستقبل التنسيق الأمني الإقليمي والذي يستند على الثقل الاستراتيجي للمنطقة. من يرى رعد الشمال لابد أن يتذكر مقولة سقراط لزوجته زنتيب" بعد كل هذه الرعود فلا بد من هطول المطر".