ربما ان فصول الرواية الجديدة بدأت قبل سنوات، عندما اخذ مسؤولو ادارة اوباما يدرسون ويقلبون الخيارات حول الكيفية التي يتعين بها مواجهة ايران. ما الذي اسهم في ذلك؟ قد تكون حقيقة مهمة: ايران ليست العراق. وقدرة ايران على الرد او الايذاء اكبر من قدرة العراق في آخر سنوات حكم صدام حسين. فالعراق المنهك وقتذاك من حربين متتاليتين وحصار اقتصادي محكم طوال عقدي الثمانينات والتسعينات من القرن الماضي، كان بالمقاييس الاستراتيجية والعسكرية خصماً يمكن التعامل معه بأقل قدر من الخسائر، وهذا ما اثبته على الاقل الغزو الامريكي للعراق عام 2003. لا ننسى ايضا ان امريكا نفسها كانت بعد غزو العراق منهكة من حربين: افغانستان (2001) والعراق (2003) قبل ان تأتي الازمة المالية العالمية في 2008 وتزيدها انهاكاً.
وفي اغسطس 2012، نشر كل من جيمس دوبينز وعلي رضا نادر وهما على التوالي زميل ومحلل بمعهد راند مقالا في مجلة "فورن افيرز"، يعلقان فيه على مقال للمؤرخ الأمريكي مايكل ليدين نشر في نفس المجلة في الشهر السابق (يوليو) دعا فيه واشنطن الى العمل على دعم ثورة داخل ايران بدلا من العقوبات واستخدام القوة ضدها. وخلص دوبينز ونادر في مقالهما الى النتيجة نفسها التي خلص اليها ليدين حول عدم جدوى الخيار العسكري وفرض العقوبات على ايران. واعتبر الكاتبان -مثلما سبق لليدين- انه ما دام الهدف النهائي هو اسقاط النظام، وطالما ان المعارضة الايرانية اضعف من ان تنجز هذا الهدف، فان على الادارة الامريكية ان تعمد الى تسليط الاضواء على انتهاكات حقوق الانسان في ايران لأن "ان الدولارات والبنادق قد لا تغير النظام في ايران بل الدعم الاخلاقي والسياسي لأي تحرك مناهض للنظام (على غرار احتجاجات العام 2009 بعد الانتخابات الرئاسية) وان على واشنطن ان تترك تغيير النظام للإيرانيين انفسهم تماما مثلما فعلت في مصر وتونس وليبيا".
هل يصح القول ان ادارة الرئيس اوباما استمعت لنصائح من هذا النوع؟ قد لا يتعلق السؤال بما قدمت واشنطن ومجموعة "5+1" لايران في مفاوضات الملف النووي، بقدر ما يتعلق بما دفعها للدخول في هذه المفاوضات، وتحديداً رهاناتها.
يرى خبراء كثر، ان ادارة اوباما دخلت هذه المفاوضات وهي تراهن على ان اتفاقا حول الملف النووي الايراني يرفع العقوبات عن ايران، من شأنه تقوية الجناح المعتدل داخل النخبة الايرانية الحاكمة على حساب المحافظين. لكنهم -اي الخبراء- يرون ان هذا رهان يقترب من الوهم. كما يراهن مسؤولو ادارة اوباما على ما قيل انه فتوى من المرشد علي خامنئي بتحريم امتلاك سلاح نووي، لكن من جديد يبدو هذا غير واقعي لأن فتوى مثل هذه لم تنشر والأمر يتعلق بتصريحات تم تداولها لا اكثر، في حين ان خبراء ومراقبين للشأن الايراني يرون ان قدرة ايران على امتلاك اسلحة نووية أمر تحيطه الشكوك لأسباب تتعلق بالقدرات الايرانية نفسها والكلفة العالية جدا لا لامتلاك الاسلحة بل لإدارة بنية تحتية من المنشآت النووية.
أما ايران فقد دخلت هذه المفاوضات لتحقيق ثلاث اهداف رئيسية، الاول، اسقاط الخيار العسكري للغرب وهو ما تحقق حتى الآن. الثاني، رفع العقوبات وهو ما تم الاتفاق عليه في الاتفاق الاطاري في لوزان بشكل تدريجي. والثالث، الاعتراف بها قوة اقليمية وهو الهدف الذي مازال لم يتضح ما اذا كانت الولايات المتحدة والدول الغربية ستقبل بمثل هذا الدور وبشكل نهائي والى اي مستوى واي حدود، وهو ايضا محور معارضة دول الخليج والدول العربية ومصدر تحفظها الاساسي.
ولأنه لا يمكن الحديث عن اتفاق دون تسويات وتنازلات، فإن تقديم الامر على انه نصر أمر يحتاج للفحص لوضعه في سياقه الصحيح. في دراسة لها نشرها مركز الجزيرة للدراسات بعنوان "ماذا بعد لوزان: حسن روحاني وفريقه في مواجهة الداخل"، تلخص الباحثة الاردنية المختصة في الشؤون الايرانية د.فاطمة الصمادي حجج مؤيدي الاتفاق في ان "ايران حققت نصراً" يتمثل في "اعتراف دولي بان ايران تمتلك التقنية اللازمة في المجال النووي" و"اقرار المجتمع الدولي بحق ايران في امتلاك التقنية النووية السلمية" وان "التقنية النووية ستشكل مصدر دخل لايران" من خلال تصدير الطاقة الكهربائية و"الغاء العقوبات الاقتصادية واثر ذلك على الاقتصاد الوطني" واخيرا ان الاتفاق "ابطل الخيار العسكري ضد ايران". اما حجج معارضي الاتفاق فتتمحور حول كونه (من وجهة نظرهم) يمثل تجاوزا للخطوط الحمراء لأنه "رتب التزامات قانونية امام المجتمع الدولي لا يمكن التراجع عتها" كما انه جاء "على مرحلتين وليس مثلما ارادت ايران اتفاقا واحدا نهائياً وشاملاً" اضافة الى "غموض كثير من البنود وخاصة في آلية الغاء العقوبات". لكن تلك البنود التي تجعل لا المنشآت النووية فقط تحت الاشراف الأجنبي بل حتى الاقتصاد الايراني يجعل من الاتفاق نوعا من "الوصاية" من وجهة نظر الكاتب الايراني أمير طاهري في مقاله المعنون "إذا ما اراد الملالي الاستسلام" (الشرق الاوسط، 6 مارس 2015). يستذكر طاهري الحساسية البالغة لدى الايرانيين حيال التدخل الاجنبي ويخلص للقول "ان الايرانيين من كل المشارب حتى الموالون للخميني الذين يرفضون القومية مثل عموم الاسلاميين، لن يكون سهلا عليهم قبول اتفاق تلتزم ايران بموجبه بالحصول على موافقة القوى الاجنبية لأجل انفاق أموالها الخاصة".
الباب الذي سيفتحه هذا الاتفاق ان تم اقراره، باب واسع عنوانه "قبول ايران في المجتمع الدولي"، ومن الواضح ان هذا الاتفاق يقدم سياقاً لهذا القبول. اي ان تتحول ايران الى دولة طبيعية. لكن ماذا تعني كلمة "دولة طبيعية"؟ هل ستتخلى عن محاولاتها لفرض نفسها قوة اقليمية؟ وهل ستغير من سياساتها ودعمها لحلفائها في أكثر من بلد عربي؟ هل ستتغير سياساتها من المواجهة الى التعاون مثلا مع محيطها الاقليمي؟
يبدو هذا سابقا لأوانه بالنسبة للبعض ومشكوك فيه بشكل يقرب من القناعة الراسخة لدى الكثيرين، لكنه ايضا سؤال مرتبط بالتاريخ ايضا لأنه سيقرر ما اذا كانت ايران على طريق تحول داخلي من نوعٍ ما مثل ذاك الذي تراهن عليه ادارة اوباما حول تقوية جناح المعتدلين. هل ثمة بوادر تحول من هذا النوع في ايران بعد 36 عاماً من الثورة؟
بإمكاننا القياس على فترتي حكم الرئيس الأسبق محمد خاتمي (1997-2005) والاحتجاجات التي تلت انتخابات العام 2009 باعتبارهما أوضح مستويات التعبير عن رغبة قائمة وحقيقية في التغيير داخل المجتمع الايراني. ومن وجهة نظر امير طاهري، فإن ايران ربما تكون في نفس الظروف التي سادت الصين قبل ظهور دينغ هيسياو بنغ عام 1978. وبنظره ايضاً، فان دينغ هيسياو بنغ الايراني موجود وهو يلعب نفس الدور ضمن نفس المعطيات.. حسناً، لننتظر ونرى نقوش السجادة الايرانية في روايتها الجديدة.