الأحد, 22 ديسمبر, 2024

العقوبات الأمريكية تفكك وكلاء إيران في الشرق الأوسط

في الثامن من مايو 2018، أعلن الرئيس ترامب انسحاب الولايات المتحدة من الاتفاق النووي الإيراني السيء السمعة. بعدها، أعادت الإدارة الأمريكية فرض عقوبات اقتصادية أشد على إيران، تهدف إلى شل اقتصادها ومنعها من استخدام خطة العمل الشاملة المشتركة لتمويل أجندة توسعها المباشر وغير المباشر في الشرق الأوسط.


على الرغم من تشكيك العديد من الباحثين والمراقبين، وحتى حلفاء الولايات المتحدة، في جدوى هذه الاستراتيجية وانعكاساتها على السياسة الخارجية الإيرانية، إلا أنه لا يمكن للمرء أن ينكر ما تواجهه إيران ووكلائها في 2019، بعد عام واحد فقط من هذه العقوبات، من احتجاجات واسعة النطاق في بؤر نفوذهم، العراق ولبنان. في عام 2017، نشرت صحيفة نيويورك تايمز مقالًا تتحدث فيه عن مستوى القوة التي وصل إليها حزب الله، ومدى توسعه من خلال إرسال مقاتلين إلى سوريا ومدرِّبين إلى العراق واليمن. وفي هذه الأيام، يواجه حزب الله المتظاهرين الشيعة في النبطية وبنت جبيل وصور، وهي المناطق التي يتمتع فيها الحزب بأعلى مستويات القوة. تظهر هذه الاحتجاجات ضمن النواة الشعبية التي حاربت مع نصر الله لقمع الثورات في البلدان المجاورة. فقد فقدت جميع العائلات تقريبًا في محافظات الطائفة الشيعية أحد أفرادها خلال مساعي حزب الله لتوسيع سلطته وتقوية نفوذه. هؤلاء هم نفس الأشخاص الذين يشاركون في التظاهرات في لبنان وهم يرددون: “كلن يعني كلن (كلهم)، نصرالله واحد منن (منهم).” إنّ المتظاهرين اللبنانيين يثورون ضد كل المعايير التي جعلت حياتهم غير محتملة وبائسة. تلك المعايير التي جعلت منهم مجرد حجر شطرنج في خطة إيران الإقليمية للسيطرة على مستقبل الشرق الأوسط.

خلُص مقال نُشر في “فورين بوليسي” بعنوان “وكلاء إيران أكثر قوة من أي وقت مضى” إلى أن العقوبات الاقتصادية التي فرضتها الإدارة الأمريكية لم تنجح، متجاهلاً بذلك حقيقة أنّ سبب إصابة حزب الله بالشلل التّام أمام الاحتجاجات هو العقوبات. نصر الله لم يَعُد قادراً على التأثير على مشاعر قاعدته الشعبية الشيعية باستخدام سحره أو مكانته الدينية، وحزب الله لم يستطع أيضاً اللعب على خوفهم من الفوضى، أو التهديد باحتمال اندلاع حرب أهلية أخرى. ويظل نصر الله يلمح إلى هذه السيناريوهات الرهيبة في خطاباته. ومع كون حزب الله حجر الأساس لهيمنة إيران على الشرق الأوسط وما وراءه، لا يمكن للمرء إلا أن يتخيل مدى الإحراج الذي يتعرض له حزب الله نتيجة للوضع في لبنان، ومدى دهشة إيران ووكيلها، من عدم قدرة أي من التهديدات المذكورة أعلاه على احتواء غضب الناس وخيبة أملهم.

فوجئ المراقبون من اعتراف نصر الله بالصعوبات التي تواجهها الميليشيا بسبب العقوبات الأمريكية على إيران، وكان نصر الله قد طلب من قاعدته تقديم مساهمات مالية لمواصلة أنشطة الميليشيا. إلا أنّ معظم المراقبين لم يقيموا تبعات مطالبة نصر الله، ونتيجة لذلك، تجاهلوا حقيقة بالغة الأهمية، وهي أنّ: حزب الله ليس مجرد ميليشيا بالنسبة للشيعة اللبنانيين، فهو لا يلعب الدور الذي يلعبه الحشد الشعبي في العراق على سبيل المثال، إنما يمثل حزب الله مؤسسة اجتماعية واقتصادية وأمنية بالنسبة لهم. وهذا هو جوهر شرعية حزب الله، وهو أحد الأسرار الأساسية التي تفسّر نفوذه وسيطرته في البلد بأكمله. حقيقة يبدو أنّ نصر الله نفسه لم يفهمها، وربما ظن نصر الله أنه خميني الشعب اللبناني! لكنه كان مخطئاً، فاللبنانيون ليسوا شيعة أولاً، بل لبنانيين. لذلك، فإنّ حزب الله قد كسر صورته القوية، وقلّص قدرته على احتواء أي استياء في البلاد؛ لعدم تمكنه من أداء واجباته المالية تجاه مؤيديه. لماذا يدفع الشعب اللبناني الأموال والأرواح لدعم أنشطة حزب الله؟ لماذا يلعبون دورًا في مساعي إيران الفارسية للإمبريالية القديمة؟

هذه هي الأسئلة التي برزت عندما وصل نصر الله إلى نقطة لم تعد فيها جميع شبكاته المظلمة للجريمة المنظمة، وتهريب المخدرات، والاتجار بالبشر في أفريقيا وأمريكا اللاتينية وغيرهما، كافية لتلبية احتياجاتهم. مع عودة العقوبات الأمريكية لمحاصرة إيران ودوائرها الداخلية الفاسدة، لم يعد هناك ما يكفي من المال لتوزيعه على الوكلاء الخارجيين. فإنّ شبكة الحلفاء السياسيين الفاسدين، الأسر التي تسيطر على النظام السياسي والمالي الإيراني، بحاجة إلى مصدر مستمر التدفّق، وإلا، فسينهار النظام الإيراني الإسلامي.

ضمن الظروف الرّاهنة، يبدو أنّ الحفاظ على النظام في إيران يعني أن وكلاءه سيعانون، وسيحتاجون إلى استخدام أدوات أخرى للحفاظ على سيطرتهم. وقد رد حزب الله على المظاهرات بمحاولة ترهيب المتظاهرين، بالبطش واستعمال القوة ضدهم من قبل قوات الحزب. استخدم نصر الله نفس النهج الإيراني، كنهج آية الله علي خامنئي ضمن آخرين، في تفسير سخط الشعب اللبناني. فإنّ الثورة، بالنسبة لإيران ووكلائها، يتم تمويلها من قبل القوى الأجنبية المعادية لإيران، مثل الولايات المتحدة الأمريكية والصهاينة والسعوديين والإماراتيين. هذا هو التفسير الوحيد الذي يمكن لإيران أن تتصوره لأي ثورة قد تقلل من هيمنتها، والمبرر الوحيد الذي يمكن أن يقبله نصر الله، واهماً، لتحدي السلطة التي حازها على مر العقود الأربعة الماضية.

في العراق، درة تاج الهيمنة الخارجية لإيران، ورمز القرار الأمريكي الكارثي في عام 2003 الذي أخل بميزان القوى في الشرق الأوسط. يختبر الشعب العراقي أيضاً ضعف الهيمنة الإيرانية. موجهاً النداء للنخب الطائفية الفاسدة، التي منع انتماءها إلى إيران هذا البلد الغني من النهوض من الأنقاض بعد الغزو الأمريكي، ومن ثم قتال القاعدة، والآن بعد هزيمة داعش.

لكي نكون واضحين، فإنّ إيران لم تفشل في حساب أهمية العراق؛ بل بسبب هذه الأهمية، وجهت إيران وكلاءها للإبقاء على البلاد في حالة فساد وانقسام قدر الإمكان. كما لم تفشل إيران في بناء نظام سياسي شرعي في العراق لأنها لم تحاول بالأساس، رغم أنها كانت أكثر قوة قادرة على المساعدة في بناء عراق مابعد الغزو الامريكي بحكم تواجدها على الأرض وبحكم علاقاتها التي تنامت بعد الحرب في العراق؛ لكن على النقيض من ذلك، حرصت سياسة إيران في العراق على الإبقاء على ممثلين عراقيين سياسيين ضعيفين وتابعين لها من جميع الطوائف، وذلك لمنع أي تصعيد ضد سيطرتها في البلاد. لن تنسى إيران أبدًا صدام حسين والثمانية أعوام من الحرب الإيرانية العراقية في الثمانينات. إنّ كل العراقيين، بما فيهم الشيعة، يشكلون خطراً على إيران؛ فهم جميعهم عراقيون، والعراقيون لم يخذلوا هويتهم عندما تظاهروا ضد الفساد والحكم عديم الكفاءة. ما لم تضعه إيران في الحساب، هو أنّ للناس حدود لتحمل البؤس المستمر، وإلا كيف انهارت الإمبراطوريات؟ وكيف أُطيح بالرؤساء؟ هذه الأسئلة لا تلائم الأنظمة الاستبدادية، وعادة ما يتم تجاهلها بغطرسة، إيران لم تكن مختلفة.

إن أكثر الشعارات التي هتفت بها الاحتجاجات العراقية كانت ضد إيران، وقد كان شعار: “إيران برا برا! بغداد تبقى حرة!” هو الأكثر إثارة للاهتمام. يختلف العراق عن لبنان كونه بلد كبير وثري، لذلك يمكن سلب العراق، واغتصابه بطرق متعددة من قبل الوكلاء، وقد أمكن لإيران تأسيس منظومة فساد وبيروقراطية تقوم على الاعتماد المستمر على السلع الإيرانية، في الوقت الذي يواجه فيه الاقتصاد الإيراني انعزالاً عن السوق العالمية، هذا يوضّح الأهمية العراقية حتى على الصعيد التجارية بالنسبة لإيران.

لتمويل وكلائها في العراق، منحتهم إيران الأسلحة والرواتب الشهرية. وقد كانت الميليشيات قادرة على إرهاب الشعب والتصرف ضده كعصابة، كما تمكن السياسيون من التسلل داخل الحكومة والاختلاس قدر استطاعتهم. وجود جيل بعد جيل من الفساد المنظم كان أمراً مفضلاً ومضموناً كاستراتيجية جيدة. ما حدث بعد العقوبات، هو أن الرعاية الإيرانية للميليشيات التابعة لها قد توقفت أو انخفضت بشكل كبير في العراق. مما أدى إلى زيادة الضغط من هذه المجموعات لمزيد من الابتزاز الموجّه ضد الشعب، وإلى قيامها بأعمال العصابات. في الوقت نفسه، كانت الحكومة العراقية وشعبها يعانون من الدمار بعد حرب داعش. يعيش الناس في ظروف بائسة، ولا أحد يهتم بمنحهم الحد الأدنى من الراحة لتحمل الحياة في المخيمات، كما يفتقرون إلى المعونة الطبية، والرعاية الصحية العقلية والنفسية الأساسية، والطعام اللائق، إضافة إلى ارتفاع معدلات البطالة. إنّها قائمة طويلة وعقود من سوء المعاملة والإهمال. لقد دفعت إيران ووكلاؤها بالتاريخ إلى أن يعيد نفسه بعد صدام، بل عاش الشعب العراقي أسوأ من ذلك بعد عام 2003، والكثير منهم يفتقدون للأسف ذلك النوع من الديكتاتورية؛ فقد كان لديهم على الأقل كهرباء، ومياه جارية، ووظائف، ونظام فعّال، ولم يواجهوا الإذلال المستمر من قوة أجنبية.

كل هذه الحقائق كانت موجودة قبل انسحاب الرئيس ترامب من الاتفاق النووي الإيراني لعام 2015، لكن الوضع الذي كان عليه وكلاء إيران من العمل بحرية لم يكن قد وصل إلى حد الانهيار، فالأموال التي كانت تصلهم ساعدت في منع ذلك. في المقابل، كان الاتفاق النووي قد منح إيران القدرة على الانتشار أكثر، ومنح وكلائها المزيد من المساعدات والأسلحة، والمرونة لتتوسع وتسيطر على الأطياف الاجتماعية والسياسية. باختصار، كان لإيران ما يكفي من المال والشرعية الدولية لتصل إلى وكلائها في الشرق الأوسط، تاركة مواطني هذه الدول عرضة للخطر، وحدهم، ودون أمل في مستقبل أفضل. عززت إدارة الرئيس ترامب العقوبات، وكان آخرها على قطاع البناء في إيران. وقد كان أهمها ربما، على البنك المركزي الإيراني. بعد عام واحد فقط من الانسحاب، كانت إيران قلقة بشأن نفوذها الضعيف، ومدى ارتباط هذا النفوذ بتوفير الأموال للوكلاء وشراء الحلفاء، وقد اكتشفت أنّ الولاء ولا حتى المعتقدات الإيديولوجية قد كانت هي الأساس لهذا التأثير. نظرًا لأن العراق هي درة التاج، والعالم قد اعتاد للأسف على مشهد الدماء العراقية المراقة، فقد كان رد فعل الوكلاء الإيرانيين أكثر قسوة وغدراً؛ حيث تم إرسال قناصة من قبل إيران ليقتلوا ويفضوا الاحتجاجات المستمرة، وقد وصل عدد القتلى إلى حوالي 240. وانضم طلاب الجامعة إلى المظاهرات ليضيفوا المزيد إلى هذا المشهد الرهيب بالنسبة لإيران.

من السذاجة أن نقول بأن الميليشيات الإيرانية القوية في العراق والتي يصل عددها لمائة ألف عضو، أو حزب الله الذي يمتلك شبكة مظلمة إقليمية وعالمية واسعة النطاق، سيختفون بسبب الاحتجاجات في العراق ولبنان. ومع ذلك، فإن هذه هي البداية. والأهم من ذلك أنها تحذير للوكلاء الإيرانيين بأنهم بحاجة لأن يكونوا مواطنين أولاً قبل أن يكونوا عملاء لأيديولوجية. إذا هم أدركوا هذه الحقيقة، فربما يمكنهم الصمود لعدة عقود أخرى، لكن إن لم يفعلوا، وهذا هو الأرجح بالنسبة لهذا النوع من المجموعات، فإن هؤلاء الوكلاء سيواجهون مقاومة متزايدة لسلطتهم وصلتهم بإيران كدولة أجنبية معادية.

بالنسبة لإيران، فإن لديها خبرة طويلة في قمع المعارضة، فالحركة الخضراء عام 2009، كتجربة أمنية، لا تزال تعيش في ذاكرة الشعب الإيراني، بالقسوة التي تم استخدامها خلالها، والتجرد من المشاعر الإنسانية لمقاتلي ميليشيا الباسيج. وفي الغالب، ستستفيد إيران من هذه التجربة في الحفاظ على هيمنتها على هذه الدول، لبنان والعراق. لقد كشفت العقوبات الأمريكية عن مدى ضعف إيران والأهمّ وكلائها بدون أموالهم. إنّ العقوبات الأمريكية قد لا تمنع قاسم سليماني من الذهاب إلى العراق وترأس الاجتماعات الأمنية أو إصدار الأوامر للميليشيات بالقتل دون توقف. ومع ذلك، فقد منحت هذه العقوبات الشعوب في العراق ولبنان الفرصة لرؤية الواقع، عن كثب، واختيار التخلص من الهيمنة الإيرانية من الداخل، وربما يمتد هذا الأمر، بالضغط المتزايد، ليشمل الميليشيات القريبة من إيران نفسها.

في الشرق الأوسط، لا أحد يهتم بكيفية حكم إيران، أو إذا ما تم إسقاط نظامها، فهذا عبء الشعب الإيراني، وخيارهم. ما يهم دول الشرق الأوسط هو كيف تتفاعل إيران مع جيرانها، وما إذا كانت سياساتها هي سياسات دولة جارة طبيعية أم دولة تخريبية، وهذا الأمر راجع للحكومة الإيرانية لاتخاذ القرار. في الوقت الراهن، جنت إيران ما زرعته من الغضب والعداء. وغني عن القول، أنّ العقوبات الأمريكية قد ساهمت في التغلب على الوهم الذي خلقته إيران، من هيمنة إيرانية أبدية، والذي يمكن وصفه بالاحتلال الحديث في الدول العربية. من الممكن الآن تفكيك وكلاء إيران، وينبغي على إيران كدولة طبيعية أن تهتم بقلبها، طهران. ويمكن للبنانيين أن يعتنوا بقلبهم بيروت، وللعراقيين أن يستعيدوا محبوبتهم بغداد.

رشا الجندي

رشا الجندي

مشرف بحثي

المزيد

مجالات الخبرة

  • خبيرة في الشؤون الأمنية والملفات السياسية الاستراتيجية لدول الخليج.
  • خبيرة في قضايا التعاون والأمن الإقليمي لمنطقة الشرق الأوسط وباحث أقدم في شؤون الخليج.

التعليم

  • شهادة ماستر في العلاقات الدولية والنظام العالمي من جامعة ليسستر في المملكة المتحدة 2016.
  • تخرّجت من كلية الحقوق عام 2006.

السيرة الشخصية

أ.رشا الجندي حائزة على شهادة ماستر في العلاقات الدولية والنظام العالمي من جامعة ليسستر في المملكة المتحدة 2016. تخرّجت من كلية الحقوق عام 2006، وتدرّبت كمحامية لتلتحق بنقابة المحامين في دمشق عام 2009. رشا خبيرة في أمن وسياسات منطقة الخليج، وتعمل في هذا الاختصاص منذ عام 2011. رشا باحث أقدم في شؤون الخليج في مركز دبي لأبحاث السياسات العامة، كما أنها تشرف على البرنامج التدريبي للمركز.