شهدت العلاقات بين باكستان والسعودية تقدّماً متسارعاً في الأشهر الأخيرة، ورغم أنّ أهمية باكستان بالنسبة للسعودية تتعلق في جزء منها، في أنّ باكستان دولة مُسلمة ذات تعداد سكاني كبير كما أنها دولة نووية مجاورة لإيران، إلا أنّ بروز أفغانستان باعتبارها مشكلة أمنية وأيديولوجية بالنسبة لدول العالم الإسلامي بعد سيطرة طالبان من جديد على الحكم في أفغانستان، يجعل باكستان أحد محاور ارتكاز الاستراتيجية السعودية والدولية أيضاً في التعاطي مع الأزمة الأفغانية الجديدة.
وفي حين أنّ الالتزامات والاتفاقات السعودية مع القيادات السياسية والعسكرية في باكستان قد تُعتبر سريعة لكن تجدر الإشارة إلى أنّ حركة الحكومة السعودية بمؤسساتها السياسية والاقتصادية باتت هي نفسها سريعة وتسير وفق معادلات مختلفة عمّا كان متعارفاً عليه في السابق، وهو توصيف لا ينطبق على علاقة السعودية مع باكستان وحسب بل على رؤية السعودية لأجندتها ومصالحها الخارجية بشكل عام والتي اتخذت منعطفاً آخر منذ وصول الملك سلمان وولي عهده الأمير محمد بن سلمان إلى لحكم في السعودية.
المساعدات الخليجية وخلفيتها:
أعلنت المملكة العربية السعودية أنها تدرس زيادة استثماراتها في جمهورية باكستان لتصل إلى عشرة مليارات دولار، بالإضافة لبحث الصندوق السعودي للتنمية زيادة مبلغ الوديعة المقدمة من السعودية للبنك المركزي الباكستاني لتصل إلى اثنين مليار دولار قبل موعد تمديدها، ووقعت السعودية اتفاقية لتمويل المشتقات النفطية في باكستان بقيمة مليار دولار، واتخذت دولة الإمارات ذات الموقف من خلال الموافقة على قرض جديد بمليار دولار وتمديد قرض بملياري دولار في البنك المركزي الباكستاني، وهو ما يصبّ في اتجاه مماثل للجهود دولية لدعم باكستان ومساعدتها في التعافي من تداعيات الفيضانات الأخيرة والتي أدت لتشريد الاف من العائلات في باكستان من بيوتهم ودمار قسم كبير من البنية التحتية، كما تعاني باكستان من انخفاض احتياطي العملات الأجنبية في البنك المركزي الباكستاني لأقل من ستة مليارات دولار بداية 2023 مما يؤثّر على قدرة باكستان الاستيراد بما فيها المواد الغذائية والأدوية والمعدات الطبية مما يعني أنّ المخاطر الاقتصادية وتلك المتعلقة بالتبدل المناخي باتت تمثّل خطراً مباشراً على استقرار الدولة الباكستانية واحتمالات تأثيرها على السّلم الأهلي في الداخل، خصوصاً مع مشهد متوتر بين الفرقاء السياسيين وصراع يقوده رئيس الوزراء عمران خان للعودة للحكم، مما يجعل الصعوبات الاقتصادية وعجز الحكومة عن إيجاد حلول يمكن أن يقلب المعادلة من جديد ويعزز أدوات الخطاب الشعبوي.
تسعى القيادة في باكستان لاستثمار العلاقات التاريخية الجيدة مع السعودية باعتبارها القبلة الدينية الأولى للمسلمين والتي لطالما سعت لدعم الاستقرار في باكستان. حيث يأتي الدعم الخليجي متزامناً مع زيارة قام بها رئيس الوزراء الباكستاني شهباز شريف للدولة، وزيارة قائد الجيش الباكستاني الجديد الفريق أول عاصم منير لكلٍّ من السعودية والامارات وهي الزيارة الخارجية الأولى له منذ توليه منصبه، كما أنّ رحلة شهباز شريف الأولى بعد توليه لرئاسة الوزراء كانت أيضاً للسعودية، وهو ما يشير لمستوى تطوّر العلاقات السعودية-الباكستانية على المستويين السياسي والعسكري في الفترة الأخيرة بعد ابتعاد عمران خان عن واجهة العمل السياسي، علماً بأنّ العلاقة السعودية مع القطاع العسكري الباكستاني علاقات تاريخية ومستمرة وإن مرّت بفترات هدوء أو اختلاف في وجهات النظر من وقت لآخر.
أهمية التعاون الأمني مع باكستان:
ضمن تفسيرات اهتمام السعودية والامارات بالعلاقات مع باكستان، يبرز ملف التعاون الأمني بين دول الخليج وباكستان مع تدهور الوضع في أفغانستان بعد الانسحاب الأمريكي العشوائي والغير منظّم من أفغانستان وعودة طالبان للحكم في هذه الدولة، وفي حين أنّ الحزب الجمهوري صاحب الأكثرية في مجلس النواب الأمريكي بدأ بفتح تحقيق حول هذا الانسحاب بسبب تداعياته المخزية على صورة السياسة الخارجية الأمريكية فإنّ دول المنطقة تتخذ مسار آخر يرتبط بالتعامل مع تداعيات هذا الانسحاب على الأمن الإقليمي.
بالنسبة لباكستان، التي تمتلك تاريخ طويل متبادل وحدود مشتركة مع أفغانستان فإنها تعتبر صاحبة التأثير والدور الأكثر أهمية في ملف التعاطي الإقليمي والدولي مع الملف الأفغاني سواء ارتبط ذلك بطريقة التعامل مع عودة طالبان للحكم وما يرافقه من تحديات، أو ما يرتبط بحماية باكستان من المخاطر التي يحملها تحوّل أفغانستان من جديد إلى بؤرة تكاثر المنظمات الإرهابية وما لذلك من تداعيات على أمن وسياسات الدول العربية والإسلامية.
يبدو أنّ الحكومة السعودية لا تريد التعاطي بشكل مباشر مع طالبان لمنع أي استثمار إعلامي غربي لعلاقاتها القديمة مع الجماعة في تفسير أو لوم السعودية على ممارسات طالبان في أفغانستان بعد الانسحاب الأمريكي وبالتالي تحديد المسؤولية بعيداً عن السعودية التي خرجت من المشهد بعد أحداث سبتمبر 2001 ولا يبدو أنها تريد العودة في ظلّ الوضع الأفغاني الراهن. بذات الوقت فإنّ التوافقات المتتالية الحاصلة بين باكستان وأفغانستان بقيادة طالبان، على مستوى الشؤون الأمنية بالدرجة الأولى تصبّ في اتجاه استثمار السعودية لعلاقاتها مع باكستان لضمان احتواء مخاطر الوضع الافغاني دون الانخراط في تعقيداته بشكل مباشر، ويعتبر قائد الجيش الباكستاني الجديد المرشح الأمثل لإدارة العلاقة الباكستانية-الأفغانية أمنياً باعتبار أنه شغل منصب مدير عام المخابرات العسكرية في 2017 ورئيس المخابرات الداخلية في 2018.
مخاطر المشهد الأفغاني بالنسبة للسعودية وباكستان:
بدأ حكم طالبان في أفغانستان بعدة مشاهد خطيرة لكنها كانت متوقعة نظراً لتاريخ طالبان السابق في حكم أفغانستان، المشهد الأول، هو منع المرأة من التعليم الجامعي ومنع النساء من العمل في المنظمات الدولية مما أدى لتعطيل عمل عديد من هذه المنظمات التي غالباً ما يكون المستفيدين من نشاطها هم النساء والأطفال. بالنسبة للحكومة السعودية التي تقود رؤية إصلاحية تنموية وثقافية فإنّ قرار طالبان يمثل خطر على قوة المثال السعودي الجديد الذي سعى الملك سلمان بن عبد العزيز والأمير محمد بن سلمان ولي العهد لتثبيته في السنوات الأخيرة، وهو ما يفسّر اتخاذ المملكة موقفاً سياسياً تقاطع مع مواقف الدول العربية والمسلمة الأخرى بما فيها دولة الامارات، عبر وزارات الخارجية، كما اتخذت موقفاً دينياً عبر هيئة كبار العلماء التي اعتبرت قرار طالبان غير جائز في الإسلام مؤكدة على حقوق المرأة في الإسلام والذي لا يتوافق مع القرارات التي تتخذها طالبان.
المشهد الثاني، هو بدء العمليات الانتقامية من مسؤولين سابقين في الحكومة الأفغانية السابقة آخرها اغتيال نائبة برلمانية في منزلها بالعاصمة كابل، وذلك على التوازي مع ظهور عمليات إرهابية في باكستان أدت لمقتل مسؤولين أمنيين في هجوم مسلّح بإقليم البنجاب في الوقت الذي تعاني فيه باكستان من تجاذبات سياسية مستمرة مع تيار رئيس الوزراء السابق عمران خان مما يزيد من الاستثمار السياسي لمثل هذه الحوادث الإرهابية، ويعتبر مؤشر خطير لاتجاه سير التطورات الأمنية في الإقليم وهو ما تدركه القيادات الباكستانية ويدفعها للسعي لتعزيز شراكاتها الإقليمية بما يتوافق مع الأجندة التي تحتاج لوضعها للتعامل مع مخاطر حكم طالبان في أفغانستان، خصوصاً مع انشغال المجتمع الدولي بالأزمة الأوكرانية وانشغال السياسة الخارجية الأمريكية بقضية احتواء صعود الصين وما لها من تأثيرات على مستقبل قوة الاقتصاد الأمريكي.
تأثير الخطر النووي الإيراني على مستوى التقارب السعودي-الباكستاني:
بالنسبة لبعض الأروقة البحثية والسياسية، يذكّر التقارب بين القيادات العسكرية في السعودية وباكستان بعد زيارة قائد الجيش الباكستاني الجديد بفرضية وجود استثمار سعودي قديم بالبرنامج النووي الباكستاني واعتبار أنّ أي مسعى سعودي للتوافق أو دعم باكستان هو مرتبط باستيراد البرنامج سعودياً.
يساعد على نشر هذه الفرضية المخاوف والانتقادات المتعلقة بفشل إدارة الرئيس بايدن في إقناع إيران بتوقيع اتفاق حول برنامجها النووي واستمرار طهران بخرق قيود الاتفاق الذي ما يزال مستمراً مع باقي القوى الدولية، الأمر الذي يلقي بظلاله على مستقبل الأمن الخليجي والعربي إذا وصلت إيران لإنتاج قنبلتها النووية الأولى، وهو ما دفع معهد واشنطن الأمريكي بالتركيز على احتمالات التعاون في مجال التكنلوجيا النووية والصاروخية بين السعودية وباكستان بعد زيارة كل من شهباز شريف والجنرال عاصم منير للعواصم الخليجية وعدم الالتفات بشكل كبير لمدى المخاطر الأمنية التي تركتها واشنطن لدول المنطقة بما فيها باكستان بعد إنهائها لاحتلال أفغانستان دون ترتيبات مسبقة مع الدول المتضرّرة من احتمال عودة الإرهاب للتمركز في أفغانستان.
الخيار الأمريكي بالانسحاب من أفغانستان، كان خيار مرتبط بالوعود الانتخابية لكنه أيضاً خيار يتعلق بارتفاع أهمية التركيز على مناطق أخرى من العالم في خضم تزايد التنافس مع الصين والتصعيد العسكري في أماكن أخرى من العالم تبدو أكثر أهمية بالنسبة للأمن القومي الأمريكي.
وبذات المعنى يمكن فهم أي توافق يمكن أن يحصل مع باكستان لحماية الأمن القومي الخليجي بما فيه أي تعاون عسكري واستخباراتي لازم لمجابهة صعود الإرهاب، أو لمجابهة احتمالات البرنامج النووي الإيراني وهو مسعى لم تُخفي السعودية سعيها إليه سواء بحسب تصريحات ولي العهد الأمير محمد بن سلمان أو تصريحات وزير الطاقة السعودي الأمير عبد العزيز بن سلمان الأخيرة والذي تحدث فيها عن نقل المعرفة في مجال الطاقة النووية السلمية وهي مساعي صريحة وليست ضمنية ولا تحتاج لتأويل صحفي، كما أنها تتسق مع المصالح الأمنية والعلمية للمستقبل الذي تسعى السعودية بنائه منذ الإعلان عن رؤية 2030 وكل ما تم إنجازه منذ ذلك الوقت، لذلك يمكن القول أنّ العلاقة مع باكستان تتضمن ضرورات متبادلة تقود نحو تنامي العلاقات أمنياً واقتصادياً وعسكرياً، وهو ما يعود بآثار إيجابية على أهداف الأمن الدولي باعتبار أنّ مركزية أهدافه مرتبطة بردع واحتواء خطر الإرهاب سواء بشكله البدائي المهدّد عبر العمليات الإرهابية البؤريّة أم بشكله الكوني المتمثل بالتهديد النووي الإيراني.