قد يرحل الرئيس ترامب بعد منحه الرئيس بايدن خطوتين يتقدم فيهما على إيران، الأولى تسببت بها سياسة الضغط الأقصى والتي تركت إيران في حالة وهن اقتصادي كبير يجعل مستوى قدرتها على وضع الشروط أو القبول بها مختلف تماماً، ويوفّر إمكانية للتفاوض من موقع قوّة وليس من موقع تسليم بالوقائع، خصوصاً وأنّ التداعيات الاقتصادية قد طالت حلفاء إيران في الإقليم وتسبب في تراجع قدرتها على تمويلهم وتمويل حاضناتهم الشعبية التي تعتمد عليها للحفاظ على مزاج أيديولوجي يخدم أجندتها. والخطوة الثانية قد تكون ضربة استراتيجية ضد برنامجها النووي بحيث يمنح الرئيس بايدن مساحة من الوقت لترتيب مناخ التفاوض بما يخدم المصلحة الأمريكية، فما تقوم به إيران هو قضم الوقت اللازم للوصول لقدرات تسليح نووية، الأمر الذي لطالما شكّل ضغط سياسي ونفسي على فريق التفاوض الأمريكي.
رغم اعتراض التيار الديمقراطي على مُجمل سياسة الرئيس ترامب حيال إيران، لكن في نهاية الأمر سيكونون هم من يكسب ثمارها. المقاربة التي قد تحملها بعض الشخصيات في إدارة الرئيس القادم بايدن والتي تريد عكس عقارب الساعة وصولاً للحظة انتهاء ولاية الرئيس أوباما قد تتسبب بخسارة أوراق النفوذ التي تم بنائها في السنوات السابقة، سواء لأنّها جزء من إرث الرئيس ترامب أو لعدم وجود إيمان بضرورة استثمارها، بكلتا الحالتين سيكون القرار قراراً خاطئاً وسيدفع الشرق الأوسط ثمنه كما هو محتّم.
عندما يتحدث الخبراء أو الدبلوماسيين الخليجيين عن ضرورة أخذ مصالح الحلفاء في الخليج بعين الاعتبار لدى التفاوض مع إيران، فالأمر لا يتعلق بفرض أجندة على الولايات المتحدة الأمريكية بل يتعلق بحقيقة أنّ قدرة أي إدارة أمريكية على التوصل لصفقة أو اتفاق يخدم مصالحها لا يتم بمعزل عن التعاون مع الدول الحليفة، فمن أهم إنجازات الولايات المتحدة في تجسيد مبادئ الويلسونية هي مأسسة التعاون والإيمان به كأحد أعمدة الدولة الليبرالية الديمقراطية التي انتشرت مفاهيمها في العالم بعد الحرب العالمية الثانية. بالتالي انطلاقاً من الأيديولوجيا الأمريكية ذاتها لا يمكن توجيه العلاقة من طرف واحد وإلا فإنّها لن تكون علاقة تعاون مثل مباراة التنس التي تحتاج للاعبين وليس لاعب وجدار ارتداد. المساومة والتوصل للحلول الوسط التي لا تقضي بخسارة طرف أو فوز طرف نهائياً هي أساس السّلم العالمي، وهو النقلة التي يحاول العالم حتى الآن الوصول لها من الأيديولوجيا الواقعية إلى الليبرالية، وهو بالنهاية جوهر أهمية الدور الأمريكي في العالم.
أمريكا وهي الحليف البعيد خلف الأطلسي قد تضمن مصلحتها بمنع إيران مؤقتاً بحيازة سلاح نووي، بناءً على الاتفاق الذي تم التوصل إليه عام 2015 بسبب التزام حلفاء الولايات المتحدة في الخليج والعالم بالعقوبات المقررة على إيران، لكن باعتبار أن الحلفاء الأوروبيين يتواجدون في قارة أخرى، فإنّ الجغرافيا لم تُسعف الحلفاء الخليجيين بذات القدر، وبالتالي التعاطي مع احتياجاتهم يحتاج لمقاربة مختلفة، ليس بسبب التزام الحليف الأمريكي بأمن المنطقة بل بسبب اختلاف معطيات التقدير الاستراتيجي لأمنهم القومي عن أمن باقي الدول الداعمة للاتفاق السابق مع إيران.
منطقة الخليج تحتاج من الولايات المتحدة التأسيس لمناخ تصالحي مع إيران، وليس لمناخ يتسبب باستمرار التحدّي والعداء، وهو بالضبط النتيجة الحتمية للاتفاق النووي الذي انسحب منه الرئيس ترامب. هذا الاتفاق منح إيران قدرات اقتصادية هائلة وشرعن نفوذها العسكري والسياسي والايديولوجي في الدول العربية بصرف النظر عن كون هذه النتائج متضمنة في الاتفاق أم لا، فالواقع هو الحاكم. باعتباره قائد أقوى دولة في العالم وباعتبار أنّ شخصية الرئيس القادم بايدن معروفة بالهدوء والوسطية والميل للتوافق، فإنّ المتوقع منه هو مراجعة الحسابات الخاطئة حتى وإن كان جزءاً من الإدارة التي وقّعت على الاتفاق، ففي نهاية الأمر أي قرار سيتخذه سيشكّل إرثه الخاص.
في حال قرر الرئيس القادم بايدن العودة للاتفاق وتسبب بنتائج كارثية مثل عودة داعش أو محاولة إيران الاستمرار بالتمدد لدول أخرى في الإقليم فالقرار والتعامل مع التداعيات ستثقل كاهله شخصياً وليس كاهل الرئيس أوباما الذي توصل للاتفاق عام 2015 وهذا في وقت يحتاج فيه الرئيس الأمريكي للتركيز على تجاوز تداعيات الوباء الذي لم يتم القضاء عليه بعد.
لا يوجد أوهام في واشنطن بالنسبة لحقيقة النظام الإيراني، قد تكون الآمال هي المشكلة بسبب توافد الشخصيات الإيرانية المسؤولة المتعلمة في الغرب والتي تنجح في كثير من الأحيان في إقناع السياسيين الأوروبيين والامريكيين بأنّ القادم أفضل وأنّ الوجه الظاهري للقيادات مجرّد قشرة تخفي محبة الشعب للغرب لكن الواقع هو أنّ وجه القيادات هو الذي يحكم الإيرانيين وهو الذي يحكم على الإقليم بديمومة التخلّف والصراع الطائفي والعرقي.
لا حاجة لمنطقة الشرق الأوسط ببرنامج تسليح نووي إيراني، هذا الطرح يمثل خطر استراتيجية على الأمن القومي لدول المنطقة بأسرها، إذا كان ما تخفيه إيران بالنسبة لبرنامجها النووي أضخم مما تفصح فإنّ نوايا الرئيس ترامب بتوجيه ضربة للبرنامج الإيراني مبررة، وهو سيقدم خدمة لإدارة الرئيس بايدن الذي يستطيع التنصل من الضربة بعد وصوله للبيت الأبيض ومن ثم البدء بالتفاوض على اتفاق جديد وشروط تضمن ديمومة السّلم الإقليمي والدولي، مثل هذا السّلم يعني الالتزام بحسن الجوار، والتعاون على تحقيق الرفاه لشعوب الدول المعنيّة، والحدّ من أسلحة الدمار الشامل.