في كلا البلدين، حكومات ضعيفة وثمة طائفة واحدة تمتلك السلاح حصراً الى جانب سلاح الدولة وهذه الطائفة مدعومة بقوة من قبل إيران. ومثلما تم تبرير احتفاظ حزب الله بسلاحه بعد تحرير جنوب لبنان عام 2000 باستمرار احتلال اسرائيل لـ«مزارع شبعا» رغم الجدل حول تبعيتها لسوريا بالأساس، تم تشكيل قوة مسلحة طائفية في العراق أسميت «الحشد الشعبي» أيضا لمحاربة عدو مستجد هو تنظيم «داعش» بعد استيلائه على مدينة الموصل العام الماضي. على هذا تصطدم أي محاولة او مساع للإصلاح او تقوية دور الدولة في كلا البلدين برفض من يملك السلاح الحصري هذا.
ففي لبنان بات سلاح حزب الله أداة لممارسة النفوذ في الداخل ضد الخصوم السياسيين. أما في العراق، فإن احتجاجات الشباب تبدو من منظور آخر تطوراً يقطع الطريق امام تشكيل قوة مماثلة لحزب الله في العراق، أي ميليشيا مسلحة وقوية يراد لها ان تكون اداة تأثير وهيمنة في العراق ايضا.
يقوم الحكم والحياة السياسية في كلا البلدين على المحاصصة الطائفية، وبوجود السلاح لدى طائفة دون باقي الطوائف الاخرى، أثمر هذا حكومات تعجز عن التسيير ولعب دور فعال حتى على مستوى الحياة اليومية. أما الطبقة السياسية في كلا البلدين فهي تتشابه أيضا في اعتمادها على التربح من أدوارها السياسية وانعدام رجال دولة حقيقيين فيها يملكون رؤى وطنية شاملة وبعيدة المدى.
لقد انتفض الشباب في كلا البلدين بدافع من اوضاع معيشية متردية، وتبدو معضلة الكهرباء في العراق أكثر الاجوبة التي يمكن ان تختزل وضع البلد منذ 2003. هل هي معضلة ان تعجز حكومات متعاقبة عن توفير الكهرباء للبلد بل للعاصمة طيلة 12 عاماً؟ وإذا كان هناك من تقدم يمكن رصده في العراق منذ العام 2003 فهو التقدم الذي أحرزه قادة العراق في وضع بلدهم في قائمة الدول الاكثر فساداً.
ففي العام 2003 كان العراق يحتل المركز 113 عالمياً ثم «تقدم/ تردى» الى المركز 170 عام 2014 قابعاً في مراكز تتراوح ما بين الرابع الى الثامن في قائمة الدول الاكثر فساداً على مستوى العالم حسب تقارير منظمة الشفافية الدولية.
ان هذا السجل المخفق أكثر من كافٍ لكي يجيب عن تساؤل عما كان زعماء العراق وقادته يفعلون طيلة اثني عشر عاماً. ولهذا السجل المخفق في الفساد نتيجة سياسية شاخصة يعبر عنها تصريح علي يونسي مستشار الرئيس الإيراني حسن روحاني في مارس الماضي الذي قال فيه إن "إيران أصبحت إمبراطورية كما كانت عبر التاريخ وعاصمتها بغداد حالياً، وهي مركز حضارتنا وثقافتنا وهويتنا اليوم كما في الماضي".
لكن مطالب المحتجين العراقيين واللبنانيين سرعان ما تطورت لتصل الى مسؤولية الطبقة السياسية المهيمنة على الحياة السياسية. وإذا كانت الطبقة السياسية اللبنانية العتيقة قادرة على امتصاص اي تحركات اصلاحية مثلما سجله تاريخ لبنان، فإن الأمر في العراق خطر للغاية لا لأنها المرة الأولى التي تتهم فيها الطبقة السياسية التي امتلكت زمام الامور في العراق منذ 2003 فحسب، بل لأن هذه الاحتجاجات تأتي من صميم الجمهور الذي يفترض انها تمثله.
أي بعبارة أخرى من قلب الطائفة الشيعية نفسها وهذا يجعلها تحولاً غاية في الخطورة لهذه الطبقة ولإيران التي تدعمها وهو ما يفسر الانقسام الذي تعيشه احزاب الائتلاف الشيعي الحاكم.
في كلا البلدين، تبدو الاحتجاجات في نهاية المطاف تحدياً للنفوذ الايراني ولنماذج التوافقات السياسية التي تضمن مصالحها ونفوذها خصوصا في العراق. لكن الحديث أو التكهن بالمدى الذي ستبلغه هذه الاحتجاجات وإمكانية ديمومتها وقدرتها على تحقيق تغيير حقيقي في المعادلات سيرتبط دوما بنوع القوة التي تمتلكها والتي من خلالها يمكن ان تفرض هذه التغييرات. ان «الدولة المدنية» و«المواطنة» و«عدالة توزيع الثروة» لا تحتاج لحكومة تكنوقراط فحسب، بل لقوة اجتماعية كبرى تفرضها او «كتلة تاريخية» تستطيع فرض التغيير.
والحال ان السلاح والميليشيا والنفوذ الخارجي عنصر اساسي في المعادلة وهو يعني ان اللجوء لمواجهة الاحتجاجات بالعنف هو الاحتمال الاكبر خصوصاً في ظل تحديات تمس كيان الدولة نفسها مثلما هو الحال مع الحرب ضد تنظيم «داعش» وتباعا تحديات الحرب في سوريا وما تفرضه على لبنان وتوازناته الهشة. لهذا فإن التحدي امام احتجاجات الشباب لا في مواصلة الاحتجاج نفسه، بل في القدرة على امتلاك القوة التي تمكنها من فرض هذه التغييرات.
لا القوة المسلحة بل الكتلة الاجتماعية التي تستطيع فرض هذه التغييرات التي يطالب بها المحتجون وعلى المدى البعيد. يبدو هذا بعيد المنال خصوصاً في ظل وجود قوى اجتماعية تصطف خلف الطبقة السياسية مستفيدة ايضا من الاوضاع الراهنة وهو ما يجعل الانقسام المجتمعي يتجه نحو أصعب الخيارات للأسف الشديد.