إلا أن النظر إلى تحركات داعش والانهيار السريع لقوى الجيش والأمن العراقية التي استثمرت فيها الولايات المتحدة الكثير كاستراتيجية خروج من مأزق العراق لا يجب أن ينظر إليه على أنه علامة على فشل حكومة المالكي فقط، فذلك ليس إلا قمة جبل الجليد.
إن تسعة أعشار جبل الجليد التي تقبع تحت فشل حكومة المالكي هي فشل مفهوم الإسلام السياسي. فالحزب الديني الشيعي الذي استخدمه المالكي قام بإلغاء هوية العراق العربية واستخدم الطائفية كمنصة للوصول إلى السلطة. فحكومة المالكي التي تسلمت مقاليد الحكم في العراق منذ أول انتخابات عراقية في 2005 اختارت هوية طائفية بامتياز. فالمالكي أسس موقعه السياسي كمعارض شيعي منذ تأسيس حزب الدعوة الإسلامية الشيعي وحتى تأسيس المجلس الأعلى الإسلامي (الشيعي) العراقي. واستمرت الممارسات الطائفية باستمرار تأكيده على انتمائه لحزب إسلامي شيعي يمثل طائفة واحدة من طوائف العراق سعيا وراء وزن "الأغلبية". لقد تم مزج مبادئ ديموقراطية كالأغلبية بمبادئ الإسلام السياسي كأحقية الانتماء لمذهبية معينة في الحكم وليس باعتبارها فكراً سياسياً جامعاً وقد كان الخليط بالغ السمية للعراق. لقد مثل المالكي مصالح الشيعة وليس مصالح العراق واستخدم الإسلام السياسي أسوأ استخدام في تركيز السلطة في يد مجموعة من أبناء العراق على حساب مجموعة أخرى لا يفرق بينها إلا استخدام سياسي للدين الإسلامي. لقد استخدم المالكي عبارات مذهبية ووصف ما يجري في العراق على أنه معركة مستمرة بين أنصار الحسين وأنصار يزيد، كما أنه طارد القيادات السنية وعزلها بدءا من محافظ المصرف المركزي وانتهاء بنائبه. فانتهى بالعراق ملكا لأغلبية مذهبية وليست لكل العراقيين.
قد لا يكون المالكي حجة في الإسلام، وقد لا يكون ملتزما بكافة شرائع الشيعة، ولكنه استخدم الانتماء المذهبي لا لغرض سوى الوصول لسدة الحكم.
وفي الوقت الذي يقف العالم لإدانة "داعش" وممارساتها، وهي تستحق الادانة، فإننا لا يمكن أن ننظر إلى داعش كنبت شيطاني نبت دون مسببات. إن سياسات المالكي استمرت في بناء موجات من الجماعات المسلحة التي انبرت للدفاع عن السنة من جبهة التوحيد الإسلامية إلى حماس العراقية فأنصار الإسلام وجيش العراق الإسلامي فأنصار السنة والشريعة كلها صنفت كجماعات سنية جاءت كردة فعل على الاصطفاف الطائفي الذي خلقه تبني أحزاب سياسية لهوية إسلامية طائفية. إن ذلك التوجه نتيجة حتمية للخطاب السياسي الذي اعتمد التصنيف الطائفي الذي خلق صورة لأغلبية العراقيين بأنهم لا يجمعهم سوى أنهم شيعة وأن تلك الأغلبية تمنحهم كل شيء ولا تمنح الباقين أي شيء.
في عمق قضية داعش والمهاوي الطائفية التي تنتظر العراق تكمن قضية محورية ألا وهي استخدام الإسلام السياسي. فتأسيس أحزاب سياسية شيعية في العراق كان قراراً سياسياً مبني على استغلال مفهوم الأغلبية في الديمقراطية. ولم يكن للمالكي أن يبني قواعد انتخابية تمنحه الأغلبية في العراق لولا استخدامه للهوية الطائفية. فجاء استخدام الإسلام السياسي في العراق مبنيا على المصلحة السياسية الحزبية ومعتمداً على إذكاء الخوف والعداء مع باقي مكونات العراق لحماية الكتلة الانتخابية. إن ذلك التأجيج الطائفي هو الحمض النووي لجميع جماعات الإسلام السياسي التي تعتمد على رص الصفوف بخلق صدام هوية بين فئات في المجتمع وأخرى بناء على تفسير للنص الإسلامي وتفسير آخر.
إن ما يحدث في العراق ليس مجرد فشل حكومة، بل إن الإسراف في تصويره على أنه فشل لشخص واحد هي محاولة تضليل. فلابد من الاعتراف أن من فشل في العراق هو منظومة الحكم الديمقراطية التي لا يمكن أن تنجح دون وجود أغلبية وأقلية وفي ظل اختلاف مكونات المجتمع العراقي فإن مشروع الديمقراطية سيستمر في تفتيت الهوية لصالح الفوز بصندوق الانتخاب.
إن ما يمكن تفسيره على أنه محاولة "شجاعة" من الولايات المتحدة للاعتراف بفشل حليفها المالكي لا يكفي. الشجاعة الفعلية أن تعترف الولايات المتحدة أن مشروع الديمقراطية الذي بشرت به طلائع المحافظين الجدد في العراق هو من فشل بامتياز.