الخميس, 12 ديسمبر, 2024

في قمّة طهران، الأهمّ هو التنفيذ وليس خطاب النوايا

ركزت قمة طهران على الازمة السورية ومكافحة الإرهاب لكنها تحمل في تفاصيلها تعهدات سيؤدي تنفيذها لنقل التحالف بين إيران وروسيا لمستويات استراتيجية غير مسبوقة...


النص: انتهت قمّة طهران الثلاثية بين روسيا وتركيا وإيران ببيان ختامي ركّز على محاربة التنظيمات الإرهابية في سوريا وعلى إنهاء الأزمة السورية من خلال المسار السياسي في مفاوضات أستانة بعيداً عن الحلّ العسكري. قد تحمل هذه التعابير بعمومها توافق سطحي على ملف تم وضعه في واجهة نجاح الاجتماع. لكن عملياً تمتلك كل من هذه الدول رؤى مختلفة وأجندات لا يمكن أن تتلاقى إلا بالتسبب بأزمة وخسائر ذاتية. يضاف لذلك أنّ هدف الدول الثلاث من التعامل مع المنظمات الإرهابية يفرض تعارض في آلية محاربة هذه المنظمات.

بالنسبة لتركيا، يرى الرئيس رجب طيب إردوغان أنّ الوقت مؤاتِ لتحقيق الأهداف الاستراتيجية التركية بالبدء بعملية عسكرية ضد "قوات سوريا الديمقراطية" التي تنضوي تحتها "وحدات حماية الشعب" وهي فرع من "حزب العمال الكردستاني" وإبعادها عن الحدود مع تركيا، وتأتي قراءة الرئيس إردوغان من حاجة الولايات المتحدة والغرب للدور التركي في الاستمرار بالتوسط مع روسيا في الازمة الأوكرانية بما فيها ازمة مرور الحبوب عبر البحر الاسود لمنع أزمة غذاء عالمية، وفي عدم الوقوف مجدداً بوجه انضمام فنلندة والسويد للناتو، مما يجعل ردّة الفعل الامريكية المتوقعة ضد العملية العسكرية التركية محدوداً. بذات الوقت فإنّ لكل من روسيا وإيران مصلحة في الإبقاء على تركيا في الوسط وعدم رفض مطالبها تماماً في سوريا، وتعتقد الدولتين ان الوضع التركي يتسبب بتوتر واشنطن والناتو الذين يعملون بدأب للضغط على إيران لتوقيع الاتفاق النووي وللضغط على روسيا لإعلان الهزيمة في أوكرانيا. مثل هذا التصوّر من جميع الأطراف هو بالضبط ما يدفع الرئيس إردوغان للمشاركة في القمة الثلاثية بينما يقدّم نفسه كوسيط مع لاعبين يعتبرون خارج السّرب الدولي.

بالنسبة لروسيا، فإنّ مسألة التعامل مع التنظيمات التي تعتبرها تركيا إرهابية ترتبط بالسعي لإعادة دور قوات النظام السوري لبعض مناطق سيطرة الفصائل المعارضة وهو ما قد يفسّر تواجد المقداد في طهران خلال القمة. عودة سيطرة النظام هدف سعت له روسيا من خلال صفقة مع قوات سوريا الديمقراطية لكن قد يكون الضغط الأمريكي على الاكراد قد وقف حائلاً دون تحقيقه. وبالتالي فإنّ عملية إردوغان قد تؤدي ذات الهدف مع تحقيق مكاسب عسكرية تركية، وتُفيد في زيادة توتر الولايات المتحدة من الدور التركي في سوريا باعتبار انه تقويض لحلفاء الولايات المتحدة ولقوة تواجدها على الأرض (مع العلم انه سيمنح الرئيس بايدن مبرر للانسحاب من سوريا باعتبار ان الخروج العسكري من المنطقة هدف لجميع الرؤساء الامريكيين). يضاف إلى ذلك أنّ روسيا لا تريد أن تحقق إيران وميليشياتها على الأرض مكاسب غير متوازنة قد تضرّ بمصالح روسيا التي اضطرت لسحب بعض قواتها من سوريا لرفد جهودها العسكرية في أوكرانيا. وبالتالي يجد الرئيس بوتين دور تركيا مفيد في تحقيق الهدف التكتيكي الروسي- الذي قد تطول مدته مع استمرار الحرب في أوكرانيا- والحاجة لشركاء متوازني القوة ويمكن التلاعب بمصالحهم للإبقاء على الدور الروسي في سوريا دون تواجد قوي على الأرضي.

بالنسبة لإيران، فإنّ تصريحات المرشد الأعلى علي خامنئي حول تداعيات التدخل التركي في شمال سوريا وضّحت فَهم الإيرانيين لانعكاسات العملية العسكرية التركية على مُجمل المشهد في سوريا. لكن من المهم الإشارة للمصالح الأبعد التي تمتلكها إيران من التوافق ضمن هذه القمة، والتي يعتبر على رأسها استغلال الظروف السياسية الراهنة لتحقيق توافقات استراتيجية مع روسيا لم تكن في السابق ممكنة. أهمها:

أولاً، قد يكون المطالبة بتنفيذ كامل صفقة ال “اس-300" وفتح مجال لصفقة "اس-400" وطائرات حربية من طراز سوخوي وميغ لتعزيز قدرات إيران الدفاعية الجوية، مقابل صفقة الطائرات المسيرة الإيرانية مع روسيا والذي لا يزال خبر غير محسوم. تنفيذ مثل هذه الصفقات سيعني انتقال العلاقات العلنية الإيرانية-الروسية الى مرحلة التعاون العسكري الاستراتيجي، في الوقت الذي تواجه فيه كل من الدولتين ضغوط دولية بسبب أجنداتها العسكرية والسياسية.

ثانياً، عقد الشركة الوطنية الإيرانية للنفط مذكرة تفاهم مع شركة غازبروم الروسية بقيمة 40 مليار دولار لتطوير حقلي غاز كيش وبارس الشمالي ومشاريع أخرى تتعلق بمدّ خطوط انابيب لتصدير الغاز بالإضافة للتعاون العلمي والذي يحقق هدف إيران في عدم التوقّف عند التكنولوجيا الغربية لتحقيق تقدّم في تطوير قطاع النفط الإيراني المتهالك، حتى وإن كانت التقنية الروسية قد لا تصل لمستوى التقنيات الغربية التي ستبقى مشروطة بالاتفاق النووي وفي إقبال الشركات الأوروبية والأمريكية على العمل فعلاً مع إيران في حال التوقيع على الاتفاق.

ثالثاً، فتح تركيا المجال للاستثمار في إيران من خلال توقيع اتفاقيات لرفع التجارة الى 30 مليار دولار عبر التعاون في مجالي الطاقة والصناعات الدفاعية يطرح بحدّ ذاته تساؤل حول مدى التزام تركيا بالعقوبات الأمريكية ضد إيران، وفي مدى سعي واشنطن لمعاقبة أنقرة في حال تنفيذها لمثل هذه الخطوة فعلاً.

رابعاً، إعلان محافـظ البنك المركزي الإيراني عن البدء بالتعاملات المالية بين إيران وروسيا بالروبل الروسي والريال الإيراني يعتبر خطوة أخرى باتجاه تشكيل تحالف للخروج من سيطرة الدولار على الاقتصاد العالمي والذي يفيد عملياً صعود الصين وتنافسها مع الولايات المتحدة، رغم أن فكّ الارتباط بين الدولار والاقتصاد معقّد وصعب للغاية لكن من الواضح أنّ العقوبات على روسيا نشّط التوجّه للتخلص من هذه السيطرة.

رغم تركيز قمة طهران على تعامل الدول الثلاث مع الازمة السورية من خلال تسويات تحافظ على مصالحهم الخاصة، ورغم أنّ المقاربة الإعلامية اهتمت برسالتين رمزيتين للاجتماع وهو أنه حصل بعد قمة جدّة التي حضرها الرئيس الأمريكي وبالتالي تسعى الدول لتحقيق إنجازات أبعد مما حققه الرئيس بايدن مع شركائه في الشرق الأوسط. وأنّ الدول المتمردة على الإرادة الامريكية-إيران وروسيا- لن يتم عزلها او تحقيق أي ضغط عليها بسبب العقوبات الامريكية. لكن مخرجات هذا الاجتماع العمليّة في حال تحقّقها ستعني نقلة نوعية في طبيعة التحالفات الإيرانية-الروسية على وجه الخصوص، كما ستعني أن الاتفاق النووي انتهى تماماً ولن يكون بالإمكان إحياءه، وهو ما أدى لتصريحات روب مالي الأخيرة مع كل ما سيحمله ذلك من تداعيات على السياسة الامريكية في الشرق الأوسط، وجهودها للابتعاد عن الانخراط العسكري مجدداً في صراعاته.

يقف في وجه تحقيق مخرجات قمة طهران الكثير من الاعتبارات، أولها ان تنفيذ صفقة المسيرات الإيرانية قد تستفز ردة فعل أمريكية جديدة، وتنفيذ صفقات أسلحة إيرانية-روسية رفيعة ستثير حفيظة إسرائيل التي قد تقوم بردة فعل غالباً ضد إيران وليس ضد روسيا، مما يجعل المقايضة خطيرة بالنسبة لإيران أكثر من روسيا. يضاف إلى ذلك ان الحادثة الأخيرة التي كادت ان تفجر أزمة بين تركيا وإيران بسبب محاولة استهداف إسرائيليين تم تجاوزها لكن هذا لا يعني انها لا تؤثّر أو بالأصحّ تذكّر البلدين بحدود العلاقات بينهما وخطورة كل منهما على الآخر. هذا ويعلم الرئيس إردوغان انه يمتلك هامش مناورة واسع في الوقت الراهن. وانه بحاجة لواردات الغاز الروسي بنحو 45٪ وإيران بنحو 20٪ وهو يدفع للحديث عن نقاش لاستخدام آلية سداد بالليرة التركية والروبل الروسي  لكن تبقى تركيا عضو في الناتو، وهي لا تزال تمتلك مصلحة في بقاء النظام العالمي الراهن الذي تستفيد من موازنة أجنداتها بين أطرافه المتضادة. مثل هذا الالتزام يختلف عن مساعي روسيا وإيران والصين ودول أخرى ترى أنّ السياسة الامريكية الراهنة تقوّض النظام العالمي الراهن كما تراه هذه الدول، مما يجعل التوافقات التركية غير استراتيجية بينما التوافقات الإيرانية-الروسية هي الأهم والتي تجدر مراقبتها في الفترة القادمة.

رشا الجندي

رشا الجندي

مشرف بحثي

المزيد

مجالات الخبرة

  • خبيرة في الشؤون الأمنية والملفات السياسية الاستراتيجية لدول الخليج.
  • خبيرة في قضايا التعاون والأمن الإقليمي لمنطقة الشرق الأوسط وباحث أقدم في شؤون الخليج.

التعليم

  • شهادة ماستر في العلاقات الدولية والنظام العالمي من جامعة ليسستر في المملكة المتحدة 2016.
  • تخرّجت من كلية الحقوق عام 2006.

السيرة الشخصية

أ.رشا الجندي حائزة على شهادة ماستر في العلاقات الدولية والنظام العالمي من جامعة ليسستر في المملكة المتحدة 2016. تخرّجت من كلية الحقوق عام 2006، وتدرّبت كمحامية لتلتحق بنقابة المحامين في دمشق عام 2009. رشا خبيرة في أمن وسياسات منطقة الخليج، وتعمل في هذا الاختصاص منذ عام 2011. رشا باحث أقدم في شؤون الخليج في مركز دبي لأبحاث السياسات العامة، كما أنها تشرف على البرنامج التدريبي للمركز.