الأحد, 22 ديسمبر, 2024

دوافع الاتفاق السعودي-الإيراني وفرص نجاح الصين

وساطة الصين في الاتفاق الذي تم الإعلان عنه بين السعودية وإيران تعبّر عن المصالح المباشرة للأطراف الثلاثة في التوصّل لمثل هذا الاتفاق، وللتركيز على ما هو ممكن في الوقت الراهن وعلى محددات قبول أصحاب المصالح بناءً على المفاوضات التي بدأت في العراق. النجاح الدبلوماسي الصيني سيبقى معلقاً بمدى التزام إيران بالاتفاق وبقدرتها على إدارة التناقضات الذاتية في الداخل والخارجية في دول النفوذ باعتبار أنّ أّهم البنود مرتبط باحترام السيادة. ورغم الخطاب المشكك بالنوايا الصينية فإنّ لأمريكا مصلحة في تجربة الصينية هذه سواء نجحت أم فشلت.


دوافع المملكة العربية السعودية:
دخلت المملكة العربية السعودية عدة جولات برعاية العراق بشكل أساسي للتفاوض مع إيران بخصوص استعادة العلاقات ودراسة جوانب الخلاف التي يمكن حلّها للوصول لمثل هذه الانفراجة وبينما وفّرت الوساطة العراقية طاولة يجتمع عليها الطرفين بعد سنوات طويلة من القطيعة لم يتم توقيع اتفاق بناءً على هذه المحادثات، ولذلك تأتي رعاية الصين لاتفاق مع إيران لتمنحه مصداقية وضمانة بتحقيق التزام إيران بالبنود التي تم التوصل إليها وتوقيعها في بكين.

ضمن سيناريو توقيع السعودية لاتفاق ثنائي مع إيران فهذا سيعني أنها كانت ستنتظر من إيران الإيفاء بوعودها بما فيها مسألة عدم التعرّض واحترام السيادة، دون أي تداعيات على عدم تحقيق مثل هذا الالتزام، كما أنّ السعودية كانت ستقدم لإيران انفراجة دبلوماسية ضخمة في المنطقة بالقبول بإعادة السفارات والعلاقات بين البلدين وهو بحدّ ذاته هدف بالنسبة لإيران التي تعاني من مشاكل اقتصادية واجتماعية وسياسية سيئة للغاية في الفترة الأخيرة، بينما لا تعتبر السعودية استعادة العلاقة مع إيران هدف بحدّ ذاته وهو سبب توقيع السعودية لاتفاق برعاية الصين وعدم توقيعه في السابق رغم كل التسريبات والضغوط الإعلامية التي حاول المسؤولين الإيرانيين نشرها حول قرب استعادة العلاقات مع السعودية خلال المفاوضات في العراق.

هدف السعودية مرتبط بتحقيق مرحلة سلم إقليمي يسمح لها باستكمال النهضة الاقتصادية والاجتماعية التي أطلقتها القيادة منذ وصول الملك سلمان بن عبد العزيز وولي العهد الأمير محمد بن سلمان للحكم وإعلانه رؤية 2030. لا شكّ أنّ مواكبة القرارات الاقتصادية والمالية والتكنولوجية الصادرة في السعودية هو تحدّي لا ينفكّ عن مفاجئة أي متابع للسياسة السعودية خلال العقد أو العقدين الماضيين، فمستوى الاختلاف من حيث السرعة والمرونة بين عقد وآخر من حيث تغيير الاستراتيجيات والقوانين والمواقف هو اختلاف مدهش لكن ليكون قادر على الصمود وتحقيق المشهد النهائي من عملية الإصلاح فهو يحتاج للأمن ووقف التهديدات الخارجية للمشاريع والبنية التحتية والاستثمارات الأجنبية وهو جوهر قبول السعودية لاستعادة العلاقات.

بالنسبة لدول الخليج وأهمها السعودية والامارات فإنّ التنمية والازدهار لا يمكن أن يتم في ظل الحروب، ولا يوجد فرصة لوقف هذه الحروب إذا لم تكن إيران جزء من عملية التحوّل هذه. 

إمكانية إحراج الصين:
يعتمد نجاح الصين في صياغة أول وساطة لها في الشرق الأوسط على قرار إيران وبالذات الحرس الثوري والأذرع الخارجية واحترامهم للاتفاق وهذا ينطبق على الحوثيين في اليمن والحشد الشعبي والميليشيات المرتبطة بإيران في العراق وخلايا حزب الله اللبناني، مما يجعل الالتزام تحدّي كبير بالنسبة للصين التي قد لا تُدرك عُمق السياسة التوسعية للجمهورية الإسلامية خلال العقود الأربعة الماضية. 

سيعني خرق إيران أو أذرعها لاتفاق توسّطت به الصين إحراج مباشر للقيادة الصينية مما يمكن أن يؤثر على العلاقة بين الدولتين والتي عملت قيادات إيران بشكل حثيث على تعزيزها للاستفادة من ثقل ثاني اقتصاد في العالم ودعم محور دولي يوازن المحور الغربي الذي تقوده الولايات المتحدة مما يخفف عن إيران تركيز العالم عليها كدولة خارجة عن الشرعية الدولية. تراجع علاقة إيران أو تجميدها مع الصين سيمثل خسارة لإيران ومكسب للسعودية التي تتبنى مسار بناء ثقة مع الرئيس "شي" منذ وصول الملك سلمان بن عبد العزيز الحكم، حيث يتم اعتبار الصين شريك اقتصادي مهمّ جداً للسعودية سواء من حيث الاستثمار والصناعة أو من حيث أهمية الصين في استيراد الطاقة.

بالنسبة للولايات المتحدة، أي فشل للاتفاق سيعزز من أهمية الدور الأمريكي في أية عملية دبلوماسية في الإقليم وسيضعف من وساطات مستقبلية قد تسعى الصين لها، كما أنه قد يؤدي لاهتزاز الثقة بين القيادتين الصينية والإيرانية وبالتالي البدء بإضعاف المحور الذي يتم بنائه لمجابهة المحور الغربي الذي تقوده الولايات المتحدة.

بينما، إذا قررت إيران الالتزام باتفاق بكين فإنها ستجد فرص استراتيجية لمساعدة اقتصادها الداخلي الذي يواجه مصاعب خطيرة تترافق مع احتجاجات اجتماعية مستمرة ضد شكل الدولة الإيرانية الإسلامية وارتباطه بمستوى قمع واسع لم يعد قبوله ممكناً خصوصاً في ظلّ التغيّر المتسارع في المشهد السعودي والذي ترك إيران وحيدة مع دول رجعيّة مثل أفغانستان من حيث قمع المرأة وفرض قيود على حياتها وحركتها ومظهرها، هذا التصنيف لا يتوافق مع إيران الفارسية التي تعتبر تاريخها وقيمها متفوقة على محيطها وهو فَهم غير صحيح لتاريخ المنطقة ودولها، مما يجعل وقوع إيران في الصورة النمطية ذاتها التي حاولت إسباغها على دول الخليج خطر داهم تمتلك مصلحة بتلافيه لصعوبة التخلص منه. 

عائق الأولويات الأمريكية أمام دورها الدبلوماسي:
من الخطأ تصوّر أنّ الولايات المتحدة الأمريكية غير قادرة على الوصول لاتفاق مماثل للاتفاق الصيني، حيث تمتلك واشنطن أدوات اقتصادية على المستوى الدولي تمكّنها من دفع إيران للتوقيع على اتفاق مماثل والمراهنة على الالتزام به كما تراهن الصين، لكن ما تريد الولايات المتحدة تحقيقه مختلف عما تريد الصين تحقيقه والذي تلاقى مع ما تريد إيران القبول به وما ترى أنها ستحقق فائدة منه.

الولايات المتحدة الامريكية، لا ترى في مصلحتها الدخول "أصلياً" في اتفاق يعين الاقتصاد الإيراني بشكل كبير بدون تنازل عن المشروع النووي ضمن الإمكانيات التشريعية والضوابط الأمريكية، بينما لم تبدو إيران جدّيّة بالتخلي عن هذا الاتفاق بعد توقيعه مع إدارة الرئيس أوباما في 2015، وكان عدم الجدّيّة أحد أسباب انسحاب  الرئيس ترامب من الاتفاق في 2018. تعقيد هذه التجاذبات وانعدام الثقة بين الطرفين أدى لسعي إدارة الرئيس بايدن لاستخدام مزيد من العقوبات والضغوط الاقتصادية على إيران ومسؤوليها لدفعها لاتخاذ قرار بالتجاوب والعودة لاتفاق نووي جديد.

تشكّك سياقات الإعلام الأمريكي ومراكز الأبحاث في نوايا الحلفاء وعلاقتها مع الصين كما يشكك بدوافع الصين وشكل دخولها الجديد من البوابة السياسية لمنطقة تعتبر حليفة لواشنطن منذ نهاية الحرب العالمية الثانية وترتبط أمنياً بالمظلة العسكرية الأمريكية وهو أمر لم يتغير عملياً حتى الآن، كما أنّ القنوات بين السعودية وإدارة بايدن تعززت بشكل كبير بعد زيارة يوليو الماضي للسعودية مما يجعل خطاب الأزمة غير مقنع. ويرجح أنّ أروقة النقاش السياسي الأمريكي البعيدة عما يسمى "بالبروباغندا" بين الدول المتنافسة ترى في التزام قيادة إيران باتفاق الصين فرصة لتغيير طبيعة النظام الإيراني والذي قد لا يكون حليف نهائي للصين أو روسيا لما يستدعيه الالتزام بالاتفاق من تبدلات في آلية العمل اليومية للنظام الإيراني وأذرعه الخارجية مما يجعل وساطة الصين- بدون مشاركة مباشرة من الولايات المتحدة- وساطة قد تحقق أهداف استراتيجية.

تبدّل طبيعة النظام الإيراني هو بحدّ ذاته نوع من أنواع تغيير النظام الذي تريد الولايات المتحدة تحقيقه لتغيير أولويات إيران ومصالحها الاستراتيجية مما قد يؤدي لخفض مستوى خطورة مشروع التسلح النووي الإيراني أو التخلي عنه كلياً في أحسن الأحوال، وتهديد إيران لطرق ومصادر إنتاج النفط من خلال دعم الميليشيات الإرهابية وصناعة الحروب والدول الفاشلة من حولها والتي تمنع الولايات المتحدة من نقل عبء الحماية الأمنية لحلفائها وتضطرها للانخراط العسكري المباشر كما حصل في العراق بعد انسحاب الرئيس أوباما في 2011 وبروز داعش الذي أدى لتشكيل التحالف الدولي لمحاربة داعش 2014. من هذا المنطلق يمكن لإدارة الرئيس بايدن النّظر لما توصّلت له الصين باعتباره فرصة وليس فقط تحدّي لنفوذها وعلاقاتها مع دول الإقليم.

نجاح الوساطة الصينية:
نجاح الصين لا يتعلق بفشل الولايات المتحدة في جذب حلفائها لدعم سياسة الضغط أو في دفع إيران على توقيع الاتفاق، بل يتعلق بمصالح الأطراف العملية التي أدت للتجاوب مع الدور الصيني الذي يبدو أنه ركّز على ما هو ممكن وليس ما هو مطلوب. بمعنى آخر، مقاربة عدم تقبّل السعودية وباقي دول الخليج لسيناريو حصول إيران على التفوق النووي مقاربة صحيحة باعتبار أنه سيمثّل انزياح استراتيجي في ميزان القوة العسكرية والتكنولوجية لصالح إيران، وهذا لا يتعلق بالخوف من أن تقوم إيران باستهداف دول الخليج بالسلاح النووي لأنه سيناريو لن يحصل بسبب تداعياته على إيران نفسها، بالتالي المطلوب وهو عدم تغيير ميزان القوى الاستراتيجي ليس بالضرورة تحقيقه في الحال.

الممكن بحسب المشهد الراهن، هو التوصل لاحترام سيادة الدول والوعد بعدم تهديد الاستقرار الداخلي سواء من خلال المسيرات الإيرانية أو الصواريخ البالستية أو من خلال الزوارق المفخخة في ممرات نقل الطاقة والتي تعتبر أهم وأكثر خطراً من الناحية العسكرية على دول الخليج من السلاح النووي بمعناه البحت، وهي أولويات صحيحة ليس فقط بالنسبة للسعودية بل أيضاً بالنسبة للصين التي تستورد معظم نفطها من المنطقة.

الاتفاق على احترام السيادة سيحمل معه فرصاً لحلّ ملفات إقليمية مستعصية أهمها اليمن التي عانت لسنوات من عقبة استخدامها كورقة ضغط على دول التحالف العربي، وبالذات السعودية، كما يمكن أن تنعكس على أزمات دول نفوذ إيرانية مثل سوريا والعراق ولبنان والتي تعاني كل منها من مشكلات أمنية واقتصادية وسياسية معقدة ومعلّقة بالموقف الإيراني وبالموقف من إيران نفسها سواء إقليمياً أو دولياً.

الجدل في إمكانية نجاح وساطة الصين هو مراهنة على التزام الأطراف بمصالحها سواء الواضحة أم الضمنية منها، وهذا ينطبق على مصالح الولايات المتحدة كما ينطبق على مصالح السعودية والدول العربية وإيران التي سيكون سلوكها الفعلي وليس الدعائي محلّ ترقّب من الجميع بسبب امتلاكها لعناصر تخريب عديدة تبدأ من بميليشياتها وتنتهي بدوائر الفساد الداخلية والتي قد لا تمتلك مصلحة بتغيّر سياسة النظام أو علاقته بمحيطه. صحيح أنّ التحدّي سيكون أمام إيران لكن تداعياته ستواجهها سلباً أم إيجاباً جميع الدول المهتمّة بمصير الشرق الأوسط.

رشا الجندي

رشا الجندي

مشرف بحثي

المزيد

مجالات الخبرة

  • خبيرة في الشؤون الأمنية والملفات السياسية الاستراتيجية لدول الخليج.
  • خبيرة في قضايا التعاون والأمن الإقليمي لمنطقة الشرق الأوسط وباحث أقدم في شؤون الخليج.

التعليم

  • شهادة ماستر في العلاقات الدولية والنظام العالمي من جامعة ليسستر في المملكة المتحدة 2016.
  • تخرّجت من كلية الحقوق عام 2006.

السيرة الشخصية

أ.رشا الجندي حائزة على شهادة ماستر في العلاقات الدولية والنظام العالمي من جامعة ليسستر في المملكة المتحدة 2016. تخرّجت من كلية الحقوق عام 2006، وتدرّبت كمحامية لتلتحق بنقابة المحامين في دمشق عام 2009. رشا خبيرة في أمن وسياسات منطقة الخليج، وتعمل في هذا الاختصاص منذ عام 2011. رشا باحث أقدم في شؤون الخليج في مركز دبي لأبحاث السياسات العامة، كما أنها تشرف على البرنامج التدريبي للمركز.