أتاحت زيارة عدد من منتسبي كلية الحرب الوطنية لمركز بحوث في دبي فرصة لتبادل وجهات النظر حول التحديات والفرص التي تواجه منطقة الشرق الأوسط، وفيما إذا كانت المنطقة تمر بأحد حالات عدم الاستقرار المعتادة التي يمكن معالجتها بنفس طرقها السابقة، أم أن هناك فلسفة جديدة تغير تلك التوجهات قد لا يمكن تفسيرها عبر المقاربات الكلاسيكية للعلاقات الدولية المبنية على التحالفات التاريخية والجغرافيا السياسية ومبادئ براغماتية المصالح الصرفة.
الفريق الزائر ضم منتسبين لمختلف القوات المسلحة الأمريكية ومعظمهم من الذين عملوا في المنطقة سواء في العراق أو سوريا أو أفغانستان. وربما كانت السياسات الأمريكية تجاه إيران هي الحبل السري الذي يجمعهم.
ومن هنا كان التحول الذي برز في الموقف الخليجي تجاه إيران والذي كانت أبرز صوره الاتفاق الذي تم بين السعودية وإيران في بكين أحد أهم المواضيع التي تم طرحها.
إن ردة الفعل المباشرة لذلك الاتفاق تمثلت في تفسيرات من قبيل التخلي عن الحلفاء التقليديين بسبب الانسحاب الأمريكي من المنطقة أو خطاب تحويل السعودية إلى "دولة منبوذة"، وجميعها طروحات ترى فيها ردة فعل عاطفية ولا ترى لها أي بعد استراتيجي.
لقد استدعى ذلك الربط بين السياسات الخارجية والسياسات العامة لدول الخليج. وفي التجربة الإماراتية، فإن سياساتها العامة التي رسخت نموذج التسامح المبني على احترام الأفراد والديانات والحضارات، وإنها كانت سياسة لدرء التطرف الديني في المنطقة ودرء صراعات الهوية الدينية وأن بذلك مهدت الطريق لأحد أكبر التحركات السياسية تأثيرا في المنطقة وهي الاتفاقيات الإبراهيمية.
وينطبق ذلك على فهم التحول في السياسة الخارجية للمملكة العربية السعودية تجاه إيران حيث أن تغير الأولويات الوطنية التي جاءت بها الرؤية الاقتصادية 2030 لولي العهد الأمير محمد بن سلمان، أدت إلى تغير النظرة السعودية في العلاقات الإقليمية من مبادئ التنافس الإقليمي المبني على صراع الهويات الدينية بين السنة والشيعة، والتي جاءت بها سياسات "الاحتواء المزدوج"، إلى مبادئ الجغرافيا الاقتصادية التي تعتمد على التعاون وأجندات الارتباط. وفي إيران، فإن تجارب دول مثل الإمارات والسعودية في التنمية الداخلية وابتعادها عن التنافس الجيوسياسي المبني على الهوية الدينية سيدفع بلا شك إلى تغيير ديناميكيات القوى الداخلية، حيث أن المظاهرات الحالية في إيران قد لا تكون حول الحجاب فحسب ولكنها حول حاجة إيران، شعبا ودولة، لأن يرتقي في سياساته التنموية ليماثل دول المنطقة، بما في ذلك الإصلاحات الاجتماعية، وأن أحد أول خطوات ذلك هي استعادة الترابط مع جيرانها العرب.
في دول الخليج العربي فإن فكرة "تغيير النظام" التي تجعل دول المنطقة عدوا طبيعيا لإيران ومتدخلا في سياساته الخارجية، قد سقطت. وبدأت تلك الدول بالنظر إلى سياسة تجاه تحديث النظام على أساس رفع درجة انخراط إيران "كدولة" مع باقي الدول في المنطقة وبناء أدوات التعاون ما بين الدول لتخفيض درجة الاعتماد على جماعات ما دون الدولة في تلك العلاقات. سيتطلب ذلك تحول تركيز الاستراتيجية الأمريكية تحديدا من تغيير النظام إلى تعزيز تحديث النظام، بما في ذلك الإصلاحات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية التي تتماشى مع المعايير الدولية وتساعد على دمج إيران في المجتمع الدولي.
إن ترابط إيران رقميا مع باقي العالم، سيجعلها أكثر انفتاحا اقتصاديا واجتماعيا، ويمكن للتعاون الرقمي بين إيران ودول المنطقة، وبينها وبين العالم في تسريع تحديث النظام وإلهام جيل جديد من الإيرانيين ليروا نفسهم جزء من العالم وليس معزولين عنه.
إن ذلك هو الدرس الذي قد تستفيده إيران من دراسة تأثير رؤية المملكة العربية السعودية 2030، المدعومة من الأمير محمد بن سلمان، والطريقة التي ساهمت فيها للاستجابة لتطلعات جيل جديد من الشباب في السعودية يماثل الجيل الجديد في إيران في طموحاتهم وتطلعاتهم. إن تغيير أسس العلاقات في المنطقة من الاعتماد على الجغرافية السياسية إلى الجغرافية الاقتصادية، سيكون له تأثير واسع على طريقة التفكير بما يعنيه الحفاظ على التأثير. سواء تأثير إيران في سوريا أو في العراق أو حتى في اليمن، وأن إيران يمكن أن تحظى بتأثير دبلوماسي عبر القنوات الاقتصادية أكثر أهمية من الحصول على التأثير عبر المنظمات المسلحة الدينية.
عناصر ذلك التحول حدثت فعلا في تعامل دول الخليج مع العراق، الذي تحول من التعامل مع العراق من زاوية الصراع الطائفي إلى النظر إلى العلاقات مع العراق من زاوية العلاقات بين الدول والقضايا العالمية. كما أن عناصر ذلك التحول هي ما تدفع التفاوض في اليمن والتطبيع مع سوريا. وقد يكون أمام الولايات المتحدة فرصة كبرى في قيادة ذلك التحول لاسيما وأن سياسة الاحتواء المزدوج تجاه إيران قد فشلت، فمن مصلحة الولايات المتحدة أن تدعم نظرة إيران لمصالحها على أنها متجذرة في التعامل مع العالم كلاعب دولي بدلا من التعامل معها كدولة منبوذة لا سبيل لها للبقاء إلى في عالم سفلي يمتد من التهريب إلى الإرهاب.
إن ذلك التغير في الاستراتيجية لن يحدث حتى تفهم الولايات المتحدة مدى التحولات التي تحدث في المنطقة بدءا من الاتفاقات الإبراهيمية إلى التوافق السعودي الإيراني، وأن تنظر لها من باب الفرص لا المخاطر. فرص يمكن تحقيقها عبر خلق أطر تعاون دولية تضم الجميع بدلا من النظر إليها كوسيلة للحفاظ على روابط الجاذبية لقطب ضد آخر.