إن ترجمة ارحل الحرفية كانت التخلص من رأس النظام، وهو ما كان. إلا أن ما فات العديد من الأنظمة التي "تغيرت" أنها التزمت المعنى الحرفي مقابل المعنى الرمزي. لقد كانت الانتفاضات التي شهدتها بعض جمهوريات العالم العربي محاولة "لاستعادة الشرعية" الأساسية لنظام الحكم، والتي تحورت لتصبح شرعية النظام الحاكم، إلى جذورها الأساسية ألا وهي الشرعية المستمدة من الشعوب. لقد استطاعت الجماهير التي خرجت في الشارع أن تصبح قوة قادرة على إحداث التغيير ولكن أي تغيير؟
إن ما حدث في مصر وتونس وليبيا لم يفض إلى تغيير جذري إلا في الأشخاص الذين يقبعون على هرم السلطة. ولو كانت تلك الانتفاضة الربيعية هي انتفاضة ضد فاسدين ومفسدين فلربما حققت أغراضها. وربما أفرزت الانتفاضات انتخابات أكثر واقعية وتركت المجال لاختيار حكومات أو ممثلين عن الشعب في جهاز الدولة أو الجهاز التشريعي والرقابي. إلا أن تلك هي نفس الأجهزة التي كانت موجودة قبل الانتفاضة وتعتريها نفس المشاكل التي ستهدد بأن يلجأ الشعب مرة أخرى لقوة الشارع كلما استشعر تهديدا. سواء كان التهديد وجوديا مثل تعيين رئيس وزراء من النظام القديم أو تهديدا تجاريا كرفع أسعار علف الدواجن.
إن القوة الشرعية الجديدة للشعب أصبح يتهددها استخدام وسائل "استعادة الشرعية" كالنزول للميدان لتصبح الأداة الوحيدة لترجمة رغبة الجماهير، وهو أمر سيحول الطاقة الجديدة التي اكتشفها الشارع العربي إلى طاقة معطلة بدلا من أن تصبح طاقة بناء. وعليه فإن فهم مدى التأثير الذي أحدثته الانتفاضات العربية على العقلية العربية ومدى ارتباطه بعقود من تحسين التعليم ووسائل الاتصالات والعولمة يستوجب التساؤل إذا كان ما حدث فعلا ما بعد الربيع العربي سيؤدي إلى استقرار فعلي وإشاعة سلام في المنطقة.
إن الحديث حول الاستقرار بعد الثورة يستوجب الحديث عن شكل الدولة في الحقبة القادمة وإذا كان شكل الدولة سيترجم الواقع الجديد الذي قلب هرم السلطة وأعاد الشرعية للشارع، وما هي التغيرات التي يمكن أن تدخل على مؤسسات الدولة كنتيجة لمخرجات الربيع العربي.
إن طبيعة التغيير المطلوبة تتجاوز تغيير أشخاص في الأنظمة إلى تطوير شكل الدولة لخلق آلية لدمج المجتمع في آلية صنع القرار بشكل ديناميكي ومستمر وتجاوز مأزق الصوت الواحد للفرد الواحد كل أربع سنوات. لاشك أن ثقافة "الشعب يريد" ستفتح بابا أوسع لتغيير الثقافة السائدة في آليات صنع القرار وهو سيؤثر فيه مدى وعي الجماهير وقدرتها على اتخاذ الخيار الأوضح. كما سيحدده قدرة الجماهير على استخدام الوسائل السياسية المتاحة لضمان سلامة العملية السياسية.
إن مفهوم المسائلة الذي جلبه الربيع العربي والذي أخذ أشكالا متعددة منها كشف فساد المتنفذين في الجمهوريات قد فتح باب قدرة الجماهير على المحاسبة وهو أمر سيطال نواب الشعب كما يطال الشخصيات في قمة هرم السلطة. وفي ظل عدم وجود آلية تضمن مسائلة فعلية من الشعب، وليس فقط من الأحزاب، فإن الخيار المتاح سيكون لجوء الجمهور للشارع كلما احتدم نقاش وهو ما سيصبح في نهاية الأمر عاملا معطلا لأي خطط تنمية بدلا من أن يصبح داعما لها.
لا شك أن التفكير بوسائل لتطوير شكل الدولة سيكون أمرا يسهل التنظير فيه، لاسيما في حالة الغموض التي يكتنف الوضع السياسي في دول ما بعد الربيع العربي. ومن السهل أن يتخيل المرء أن ذلك التطوير قد يتحقق بتطوير داخلي للنظام البرلماني الحالي كتقليص عمر المجلس البرلماني من خمس أو أربع سنوات إلى سنتين. كما يمكن النظر في ربط البرلمانات بشكل عضوي بمؤسسات المجتمع المدني وذلك من خلال إشراكهم في اللجان المشتركة أو إقبال الممثلين البرلمانيين على تطوير أدوات تواصل مع مؤسسات المجتمع المدني والشباب المهتمين لتبادل الأفكار وشرح الرؤى. بل ويمكن أن يطمح المرء لتطوير أدوات مستقلة تضمن تفاعل المجتمع مثل تكوين "برلمانظل" من عضوية الشباب ومؤسسات المجتمع المدني والتي تقوم بدورها بعكس موقف الشارع فيما لو تباين مع موقف البرلمان.
أما الواقع، بعيدا عن التنظير، فهو أن دول ما بعد الربيع العربي، كما تحملت مسئولية قيادة الربيع العربي، ستتحمل أيضا مسئولية أن تصبح "مختبر" سياسي يتحمل ريادة تطوير نظم الحكم الرشيد في العالم العربي واختبار الطريق الذي لم يطرق من قبل. إن ذلك الدور الريادي لدول الربيع التي تعيش مخاضا صعبا يستحق منا الاحترام كما يستحق منا التفهم قبل الحكم على نتائج تلك التجارب.