بدأ الابتكار في احتلال حيز كبير في صياغة التوجه الوطني وتوجيه الميزانية والتنمية المؤسسية بهدف التحول نحو عمليات اقتصادية مبتكرة.
تعتبر سنغافورة من أفضل نماذج للابتكار والاستراتيجية القائمة على البحوث التنموية. فاعتمد مجلس التنمية الاقتصادية في البلاد مبدأ بأنه "مركز للابتكار" (وكذلك المواهب والأعمال). وتعتبر المهمة الرئيسية للمجلس دعم الشراكات التي تقوم على البحث، لإيجاد الحلول لتنظيم العلاقة بين القطاع العام والقطاع الخاص في سنغافورة.
أعلنت الإمارات في الآونة الأخيرة أيضا عن استراتيجية الابتكار الوطنية الخاصة بها في نهاية عام 2014، كما اعتمدت 2015 "عام الابتكار".
إن نجاح استراتيجية وطنية له أهمية مساوية في مشاركة الجمهور والانخراط في مؤسسات القطاع العام وصياغة السياسات العامة.
وبالتالي فإن مشاركة الجمهور أمر حيوي جدا في السعي نحو تحقيق استراتيجية وطنية قائمة على الابتكار تماما مثل أي استراتيجية وطنية أخرى. ومن أجل تشجيع وتحفيز الابتكار والبحث والتطوير في القطاعات الحيوية التي تم تحديدها، يجب تهيئة الجمهور لتقبل فكرة الابتكار باعتبارها وسيلة للحياة. وهذا صحيح بشكل خاص حيث الابتكار ليس هدفا في حد ذاته، وإنما أداة نحو تطوير المحفزات التي تعمل على تحسين مستوى المعيشة (ومن بين هذه المحفزات التنمية الاقتصادية وتحسين خدمات الرعاية الصحية وإثراء تجربة التعليم).
إن القدرة على الابتكار هي مهارة عقلية يمكن تطويرها، حيث أشار توماس تشامورو برموزيك في مقال كتبه مؤخرا في (HBR) إلى أن البحوث تتجه نحو تأكيد إمكانية تطوير الابداع الفردي، معتبرا أن الجينات تمثل 10% عندما يتعلق الأمر بمقاييس الابداع. كما أن العلم يدعم فكرة أنه يمكن تعليم الفرد الابداع.
ومع ذلك فإن القدرة والنجاح في تدريس مجموعة من المهارات الجديدة أيضا تعتمد إلى حد كبير على انفتاح المتلقي واستعداده للتعلم.
لتطوير الثقافة التي تشجع وتتبنى وتعزز الابتكار، يجب فهم نظام القيم الذي تتميز به ثقافة المنطقة العربية. ومن المهم جدا دراسة الثقافة بشكل جيد لدعم فكرة الابتكار باعتبارها نهج، حيث من الممكن أن تعيق نجاح البحوث التنموية والبنية التحتية والتشريعات الجديدة وغيرها من الأفكار الأخرى.
وبالنظر إلى القيم الثقافية العربية فقد وجد أنها قد تعيق الابتكار.
وقد تم تحديد المواصفات التالية للثقافة العربية (1):
ولتوضيح الدور الذي يمكن أن تلعبه القيم الثقافية على الاستعداد والقدرة على الابتكار يجب أن ننظر إلى كيفية تأثيرها على أداء الفرد في بيئة مهنية.
أكدت الأبحاث الدور الجماعي والفارق الطبقي في تشكيل سلوكيات العمل، حيث يميل العامل العربي إلى الانتماء إلى مجموعة معينة في بيئة العمل (أي الجماعية) ووضع الفارق الطبقي بين هذه المجموعة والمدير
(2). مما يتفق مع القيم المكتسبة خلال مراحل التنشئة الاجتماعية وهي التي تؤدي إلى عرقلة الابتكار بسبب مفهوم الطبقية تجاه المدير، مما يجعل الموظفين العرب أكثر تشكيكا في عملية الابتكار ويميلون تجاه
لحفاظ على النهج الحالي الذي يتبعه قائد المجموعة (3).
يتطلب الابتكار مستوى معين من المخاطرة وتقبل الغموض والفشل أيضا. إن تحدي تقبل المخاطرة في المجتمع العربي يجد نفسه في مواجهة نزعة النفور من المخاطرة. وهذا يعني أن الخوف من الفشل عنصر هام في المجتمع العربي بسبب أهمية قيمة "حفظ ماء الوجه" مع المجتمع ككل. وبالتالي فإن التمسك بقيمة حفظ ماء الوجه باعتبارها نهج إيجابي في الحياة يقف عائقا أمام عملية الابتكار.
وعلى سبيل المثال حددت استراتيجية الابتكار الوطنية الإماراتية بوضوح الثقافة باعتبارها واحدة من الأربعة أركان الرئيسية والتي سيتم تناولها في العملية التعليمية، مع التركيز أيضا على مواد STEM
(4).إن تغيير سنوات من القيم والتقاليد المكتسبة ليست بعملية سهلة وعلى وجه الخصوص عندما تمثل جزءا لا يتجزأ من المجتمع. هناك نهج محتمل وهو "إعادة تعريف" القيم الموجودة بطريقة من شأنها أن تسمح باعتماد مهارات الابتكار.
وتعتبر الملكية الفكرية مثالا جيدا لتوضيح هذه النقطة. لتشجيع الأفكار الجديدة والابتكار على الدول ضمان حماية الأفكار، وذلك بوضع التشريعات المناسبة وقوانين الملكية الفكرية. وهذا يعني أيضا أن قيمة احترام الملكية الفكرية تحتاج إلى تطوير. إن احترام الملكية الفكرية والأفكار المبتكرة وبراءات الاختراع أمر أساسي لأنه يعزز المنافسة السليمة ويضمن عدم حدوث الاحباط نتيجة لسرقة الأفكار.
وفي حين تقدر الثقافة العربية الصدق والأمانة ضمن التقاليد الاجتماعية، إلا أن سلوك الأفراد أحيانًا لا تحترم الملكية الفكرية، مع أكبر مثال على ذلك تحميل المحتويات الاليكترونية من مصادر غير رسمية. ويمكن العمل على التوفيق بين احترام الملكية الفكرية والصدق باعتبارها من القيم الثقافية الايجابية التي من شأنها أن تلعب دورا مهما في نجاح الابتكار.
إن الابتكار في جوهره فكر ناجح لأنه يحدد المنتجات أو الخدمات التي تتطلب التغيير وبالتالي يمكن أن تستهلك بشكل أفضل من قبل الناس وبالتالي تحسن حياتهم. كما أن القدرة على رصد البيئة المحيطة والتفكير في إمكانية تحسين أوجه الحياة من أجل تحقيق الصالح العام هو نقطة انطلاق الابتكار. إدخال هذا النهج من التفكير في خطط الناس وتوقعاتهم سيعمل على زيادة عملية التفكير المبتكر والتوجه نحو تحقيق أهداف استراتيجية الابتكار الوطنية.