السبت, 21 ديسمبر, 2024

على القطاع التجاري تحمل مسؤوليته عن تدهور اللغة العربية

هل يمكن اعتبار الاستخدام الخاطئ للغة ولكلماتها او قواعد الصرف الخاصة بها بوسائل العلانية والإشهار في الحياة العامة مخالفة قانونية من نوع ما أو جنحة؟ نظرياً، لن يوافق أحد على النظر لهذا اكثر من كونه خطأ يستدعي التصحيح لا اكثر ولربما لا يستدعي شيئا باعتباره نتيجة طبيعية. لكن هل سيتغير الأمر إذا ما وضع ذلك في سياق التدهور الجاري للغة العربية واستخداماتها لدى الاجيال الجديدة من العرب ولدينا هنا في منطقة الخليج خصوصا؟


ان المشكلات والظواهر لا يمكن فهمها بدقة مالم توضع في سياق ما، لأن السياق هو ما سيقرر طبيعة "المشكلة/الظاهرة" ودرجة خطورتها من عدمه وتأثيراتها الواقعية او المحتملة وبالنهاية المآلات المحتملة لها او السيناريوهات المتوقعة لتطورها او تلاشيها. ومع ظاهرة تدهور اللغة العربية، فان هناك عوامل عدة لها من بينها ذلك التأثير المتأتي من القطاع التجاري في دول الخليج.

لكن الصحيح ايضا، انه بقدر ما يمكن ان ينسب هذا التراجع لعوامل واسباب تتعلق بالآخرين (الاجانب)، فإن فقدان اهتمام العرب أنفسهم بلغتهم هو العامل الحاسم الذي سرع في مسارات التدهور على اكثر من وجه. ولأن مسارات التدهور هذه بدأت منذ منتصف القرن العشرين الماضي، فإن ما نراه الآن من تراجع اللغة العربية لم يعد قاصراً على الاجيال الجديدة من العرب، بل تعداه وسائل الاعلام والى الاجهزة الرسمية أيضا.

بهذا المقياس يمكن النظر الى وضع اللغة العربية وتشخيص حالة التدهور التي تعرضت لها منذ عقدين تقريباً وما تزال.  فبقدر ما يمكن ان ينسب هذا التراجع لعوامل واسباب تتعلق بالآخرين، فإن فقدان اهتمام العرب انفسهم بلغتهم هو العامل الحاسم الذي سرع في مسارات التدهور على اكثر من وجه. ولأن مسارات التدهور هذه بدأت منذ منتصف القرن العشرين الماضي. فما نراه الآن من تراجع اللغة العربية لم يعد قاصراً على الاجيال الجديدة من العرب، بل تعداه الى الاجهزة الرسمية ووسائل الإعلام وغيرها الى الحد الذي تبدو فيه اللغة العربية مغتربة وسط الناطقين بها.

لقد بدأ تدهور اللغة العربية عندما راج كلام من انها لا تساير العصر الحديث ولا تستوعب مفردات التطور العلمي المتسارع الذي شهده القرن العشرين. لقد شاع مثل هذا الكلام لدى شريحة كبيرة من المتعلمين خريجي الجامعات العرب دون ان يستوقفهم ان اللغة الانجليزية التي كانت وماتزال تتسيد العالم لم تكن تضم المفردات العلمية التي ظهرت في القرن العشرين.

في الحقيقة ما من لغة اخرى كانت تضم مفردات علمية جاهزة، بل الأصح ان المصطلحات العلمية في كل الميادين يتم اشتقاقها اما عبر تسميتها من خلال وظيفتها او من خلال اسلوب عملها. فاللغات تتطور او تتراجع وتضمحل حسب استخدام أهلها بل مشاعرهم تجاهها، فهي مثل الكائنات الحية التي تحتاج للرعاية والإهتمام متعدد الجوانب لكي تنمو وتتطور.  فبقدر ما يهتم أهل هذه اللغة برعايتها وتطوير استخداماتها، تتطور اللغة وتنمو.

لكن هذا الاعتقاد الرائج حول اللغة العربية كان يعاد إنتاجه بدأب ومثابرة وبقدر غير قليل من انعدام البصيرة ايضا وهو ما أسهم في ترسيخ احساس بأن اللغة العربية تنتمي الى الماضي وان الحاضر والمستقبل يرتبط باللغات الأجنبية خصوصا الإنجليزية. وفي الوقت الذي لم يتخل اي شعب عن اعتزازه بلغته، بدا العرب هم الوحيدين الذين ربطتهم علاقة حب وكراهية مع لغتهم. بدا هذا جلياً في دول الخليج منذ الطفرة النفطية في ثمانينات من القرن الماضي على الأقل. فمع تحسن الاوضاع المعيشية لغالب السكان، تغيرت مؤشرات التعليم لدى سكان دول المنطقة مع زيادة اعداد المدارس الخاصة الأجنبية، حيث شاعت قيم من نوع جديد لدى الفئات الوسطى والفئات الثرية في المجتمع تربط المكانة الاجتماعية بالتعليم الأجنبي وهو ما أسهم في أحد اعراضه الاساسية في الاعراض عن اللغة العربية بدرجات متفاوتة وصلت احيانا الى التبرؤ من استخدامها.

هل اللغة خيار ثقافي أم اقتصادي؟

ومع تدفق عائدات النفط والاستثمارات الأجنبية والعمالة من كل بقاع العالم منذ تلك الطفرة في الثمانينات، اصبحت هناك تحديات جديدة امام اللغة العربية. فالقطاع التجاري الذي بدأ يزدهر كان يقوم على اكتاف العمالة الأجنبية بالأساس ان على مستوى البقالات الصغيرة في الأحياء او شركات الخدمات المتنوعة او الفندقة وغيرها من القطاعات وثيقة الصلة بالحياة اليومية للناس. وطالما ان لغة الاقتصاد والتجارة الدولية والوطنية هي الانجليزية بامتياز، فإن كثافة استخدام اللغة الانجليزية في هذا القطاع الذي يمس الحياة اليومية للناس، أسهم بدوره في مزيد من التراجع لاستخدام اللغة العربية. اسهم في هذا زيادة الإحساس لدى موطني دول الخليج عموما بالأهمية المتزايدة للغة الانجليزية في عالم الأعمال ولضمان مستقبل افضل. اي ان اللغة لم تعد خيارا ثقافياً بل خياراً اقتصادياً بالدرجة الأولى سيقرر نوع التعليم الذي ستتلقاه اجيال متعاقبة من الطلاب ونوع الوظيفة التي يمكن الحصول عليها في المستقبل وتاليا المكانة الاجتماعية المرجوة.

هكذا ومع تدفق عائدات النفط والازدهار الاقتصادي الذي شهدته دول الخليج في ثمانينات القرن الماضي، بدا وكأن مصير اللغة العربية قد تحدد سلفاً. فعلى مستوى المدارس مثلا، تراجعت مهارات اللغة خصوصا في الكتابة والنطق وضعفت قدرات النحو بشكل مقلق حقاً. وعلى الرغم من ان المقارنة بين جاذبية التخصصات العلمية والتخصصات الأدبية (بما فيها دراسة اللغة) ليست مطروحة، إلا ان التراجع في دراسة اللغة العربية وآدابها كان لافتا على مستوى الدراسة الجامعية. اما في سوق العمل، فإن اللغة الإنجليزية اصبحت هي العصب الرئيس الذي تقوم عليه الاسواق والشركات والأعمال لسبب وجيه هو أن لغة المحاسبة اصبحت هي اللغة الانجليزية في غالب هذه الشركات. يعود هذا في الجزء الأكبر منه الى اعتماد رجال الأعمال في دول الخليج على المحاسبين الهنود بالدرجة الأولى.

لقد دفع هذا التدهور بحكومة دولة الامارات العربية المتحدة مثلاً الى اطلاق عدة مبادرات وبرامج لتعزيز اللغة العربية واستخداماتها شملت "ميثاق للغة العربية لتعزيز استخداماتها في الحياة العامة ومجلس استشاري برئاسة وزير الثقافة لتطبيق مبادئ الميثاق اضافة الى مبادرات تتعلق بإحياء اللغة العربية لغة للعلم والمعرفة واطلاق كلية للترجمة ومعهد لتعليم غير الناطقين بها ومبادرة الكترونية لتعزيز المحتوى العربي على الانترنت ([1]).

لكن هذه المبادرات تحتاج الى جهود مساندة بالتأكيد، فالأهداف التي تتوخاها هذه المبادرات اهداف بعيدة المدى وتحتاج زمنا من المثابرة لتحقيقها. عدا هذا، فإن هناك جهوداً أخرى يمكن ان تدعم هذه المبادرات وعلى المدى القصير والمتوسط هي تلك المتعلقة بضبط تدهور اللغة العربية في القطاع التجاري. الفكرة هنا هي ان هذا القطاع لابد ان يتحمل مسؤولية في هذا الجانب لأنه يسهم بنصيب كبير من هذا التدهور في اللغة العربية بسبب سوء استخدامها اضافة الى ان فعالية اخطاءه لا تحتاج دليلاً لأنه ذو صلة بكل متطلبات الحياة اليومية للسكان.

هنا سيعود التساؤل من جديد حول الاستخدام الخاطئ للغة العربية -الذي يسهم في تدهورها-وما إذا كان من الممكن ان يعد مخالفة من نوعٍ ما. وطالما ان لا شيء يسند حتى الآن يدعم تصنيف هذه الاستخدام الخاطئ باعتباره مخالفة او جنحة، فإن أفضل تعريف له قد يأتي عبر ربطه بمسؤولية القطاع التجاري الاجتماعية/الثقافية.   

لقد آن الأوان فعلا لكي يتعامل هذا القطاع بحرص ومسؤولية على العنصر الأهم لهويتنا الوطنية. ليس المطلوب من هذا القطاع ان يحول العربية لغة رسمية له، لكن عليه ان لا يسهم في تدهورها.  لن يتغير هذا الإهمال والاحساس المتدني بلغة البلد وعمود هويتها إلا اذا احس القطاع فعلا بوطأة اخطاءه وهذا غير ممكن الا بالعقوبات.

على السلطات المعنية ان تفكر جدياً في فرض غرامات على اي استخدام خاطئ للغة العربية في القطاع التجاري شريطة ان تكون هذه الغرامات "مؤلمة" قليلاً [لا تقل عن 1000 درهم] لكي تدفع المعنيين للحرص أكثر على عدم الوقوع في هذه الأخطاء او تكرارها سواء تعلق الامر بالعقود او قوائم الخدمة او الاعلانات او قوائم الطعام وغيرها.

محمد أحمد يوسف العبيدلي

محمد أحمد يوسف العبيدلي

مستشار

المزيد

مجالات الخبرة

  • الشؤون الاقليمية
  • السياسات العامة
  • الشؤون الجيوستراتيجية

التعليم

  • كلية الاقتصاد والعلوم السياسية (جامعة القاهرة)

السيرة الشخصية

خلال سنواته المهنية الطويلة في الصحافة التي بلغت 30 عاما، شغل العبيدلي العديد من المسؤوليات خصوصا في الشؤون العربية والدولية حيث قام بتغطية العديد من الاحداث الساخنة في منطقة الخليج العربي خصوصا الحرب العراقية – الايرانية وحرب تحرير الكويت. كما تخصص في تغطية التطورات والشؤون الاقليمية في منطقة الشرق الاوسط خصوصا الشأن الفلسطيني اضافة الى الشأن السوداني كما تخصص في السنوات الاخيرة في شؤون حركات الاسلام السياسي.

كتب للصحافة المحلية والخليجية كما عمل لمدة عشر سنوات مراسلا لوكالة الصحافة الفرنسية وعمل محررا في شهرية لوموند ديبلوماتيك (النشرة العربية). اسهمت هذه الخلفيات في ترسيخ قاعدة متينة للانتقال الى ميدان الابحاث والدراسات.