السبت, 21 ديسمبر, 2024

تطوير التعليم: أفكار أساسية

أيهما أفضل عندما يتعلق الأمر بتطوير التعليم: أن نكتفي بتعليم التلاميذ الصغار كيفية استخدام الحواسيب بمهارة عالية وبالطبع كيفية استيعاب المواد التي يدرسونها عبر الشاشات الذكية أم ان نعلمهم البرمجة؟ ان نعلمهم عن دور الأشجار والغطاء الأخضر عموماً في التخفيف من مضار التلوث والحفاظ على بيئة صحية ام نعلمهم زراعة الاشجار والنباتات كي يلمسوا بالممارسة "العلمية/العملية" أكثر من قيمة: قيمة عملهم نفسه وقيمة الزراعة وآثارها.


لم اقدم هذا المثال لشغفي الشديد بالزراعة، لكن مثل هذه النقاشات تدور في أوساط خبراء التعليم وأولياء الأمور والمسؤولين عن التربية بل وكبار مسؤولي الحكومة ايضاً، فالتعليم مهما تشعب النقاش حوله سيبقى أمراً محكوماً بالأهداف التي نتوخاها منه، اي بالقيمة العملية منه.

لقد شغل النقاش حول تطوير التعليم اهتمام الإماراتيين على مدى السنوات القليلة الماضية، بدءاً من قادة الدولة والمسؤولين عن التربية والتعليم والتنفيذيين الى نخبة المثقفين والمعلقين وصناع الرأي العام، ولقد حددت خطط التنمية الحكومية هدفاً رئيسياً لها هو التحول الى اقتصاد قائم على المعرفة خلال عقدين، أما الأداة الأساسية لهذا التحول فهي التعليم. ولقد تلازم الحديث عن تطوير التعليم مع هدفين أساسيين: ان تلبي المناهج متطلبات سوق العمل أولا وفي هدف آخر مرتبط أو مكمل لهذا الهدف هو تشجيع أن يتجه غالبية الطلاب نحو التخصصات العلمية اللازمة لبناء اقتصاد قائم على المعرفة.

العديد من الافكار والتصورات طرحت حول تطوير التعليم ومن المؤكد ان الافكار هنا لن تتوقف، ومن بين جميع الافكار والتصورات التي يتم تداولها منذ سنوات حول تطوير التعليم، ثمة خطوات تبدو جوهرية وحاسمة لأي تطوير في التعليم بغض النظر عن المقاربة التي تحكم هذه العملية. وفيما يلي بعض أهم هذه العناصر التي اعتقد انه لا غنى عنها في المسار الطويل لتطوير التعليم:

  1. تطوير المعلمين: يبدو الأمر وكأننا نسأل أيهما يأتي اولاً، تطوير التعليم أم تطوير المعلمين؟ حسناً، الأمر واضح جداً: اذا قمنا بتطوير المناهج بشكل نوعي ومتقدم فإن هذه المناهج تحتاج لمعلمين مؤهلين أيضا لتقديمها في أفضل صورة للتلاميذ في المدارس. تخيلوا لو ان لدينا مركبة فضاء لكن الذي يتعين ان يقودها يملك رخصة سياقة سيارة. لا يمكن تطوير التعليم دون تطوير المعلمين والسؤال عن أيهما يأتي أولاً ليس ذي معنى من وجهة نظري لأن تطوير المعلمين يملك أولوية قصوى. فمع هؤلاء المعلمين المؤهلين تأهيلاً عالياً جداً يمكننا الاطمئنان الى ان خطط تطوير التعليم ستوضع في أيدي مؤهلة لتنفيذها بجدارة.

    المؤسف ان تطوير اداء المعلمين يرتبط في أذهان الكثيرين بما فيهم المعلمين أنفسهم بزيادة الرواتب فقط. حسناً، إن هذا أمر مطلوب بالتأكيد بل إنني أرى انه يتعين ان تكون رواتب المعلمين أعلى من كل الوظائف الأخرى لكن هذا سيبقى مرتبطاً بأداء عالٍ وبأقصى حدود الجهد والمهارة من المعلمين وبنتائج نوعية واضحة للعيان. في دول مثل فنلندا التي يعد نظامها التعليمي الأفضل في العالم، لا يقبل في سلك التدريس الا من حصل على شهادة الماجستير فما فوق اضافة الى تأهيل تربوي وجدارة مهنية. إذا اعتبرنا ان هذا هو نوع المعلمين الذين نريد، فإن هذا يقتضي جهداً ذاتياً من المعلمين قبل ان يكون تحفيزاً وظيفياً من الدولة.
     
  2. التركيز على المهارات: هذا أكثر ما يتكرر على كل لسان طالما تعلق الأمر بتطوير التعليم، لكن السؤال هو: كيف؟ تتراوح أساليب التعليم السائدة حاليا ما بين التلقين والنشاطات التي يقصد منها تقديم المعلومات بشكل مختلف قليلاً يعتمد على تحفيز الطلاب على التفكير. ورغم تفاوت التجارب في البلد الواحد ما بين المدارس الحكومية وبعض المدارس الخاصة، إلا أن السمة الغالبة على أساليب التدريس تقوم على "التلقين" و"الحفظ والاسترجاع" التي خلفت ظاهرة نفسية ترزح في كل بيت "رهاب الامتحانات" اضافة الى ظاهرة تعليم موازٍ هي ظاهرة الدروس الخصوصية.

    التركيز على المهارات يقتضي التركيز على بناء ذهنية تحليلية، أي ذهنية تتمتع بمهارات طرح الاسئلة الضرورية، البحث، التحقق من المعلومات، ربط الحقائق والقدرة على الاستنتاج. يقتضي هذا بطبيعة الحال تغييراً جذرياً في مقاربة التعليم نفسها تحاكي تجارب دول مثل اليابان وفنلندا التي يخلو نظام التعليم في الحلقة الاولى والثانية من الامتحانات حيث يتم التركيز على تعليم الصغار المهارات.

    وفي تفاصيل العمل اليومي، يقتضي هدف كهذا تغيير أساليب التدريس بحيث تعتمد بالأساس على "الحوار والتفاعل" بين المعلمين والتلاميذ أكثر من "التلقين والحفظ والاسترجاع" إضافة الى إشراك الطلاب في تجربة اكتساب المعرفة والتعلم. ان تنمية مهارات التحليل تتطلب ما هو أكثر من حفظ ما في الكتاب حول أي موضوع. من المؤكد ان تعميم نظام تعليم وأساليب تعليم تركز على المهارات سينهي أسلوب "الحفظ والاسترجاع" وسينهي أكثر ظاهرتين معيقتين لتطوير التعليم هما "الدروس الخصوصية" و"رهاب الامتحانات".
     
  3. الأبحاث وسيلة التعلم الأساسية: الطموح الى نظام يعتمد على المهارات وصولا الى خرجين مؤهلين لبناء اقتصاد قائم على المعرفة يقتضي أن يصبح البحث هو أداة التعلم وليس التلقين. أي ان يكتسب الطلاب المعلومات عن طريق البحث لا التلقين ولا بمجرد قراءة الكتاب المدرسي. يقتضي هذا تدريب الطلاب منذ الصغر على تقنيات البحث العلمي بكل أدواتها ومناهجها. إذا ارنا ترسيخ المعلومة في ذهن التلاميذ فليس أفضل من يعثروا عليها هم بأنفسهم، أي ان علينا تعليمهم الوسيلة التي ستقودهم الى المعلومة.

    المؤسف ان الأبحاث جزء اساسي من مناهج التعليم في دول الخليج منذ ثمانينات القرن الماضي على الأقل، لكن من على غرار الدروس الخصوصية، غدت الأبحاث تجارة لمكتبات القرطاسية التي يلجأ لها الطلاب وأولياء أمورهم للحصول فقط على علامات لا أكثر ولا أقل. أما المشكلة الأكبر فهي ان المعلمين والمدارس تقبل كل ما يصل لها من ابحاث تعرف جيداً ان الطلاب لم يقوموا بها بل قام بها وبشكل بليد في الغالب أحد متاجر القرطاسية او شخص آخر قد يكون ولي الأمر نفسه.
     
  4. تدريس التكنلوجيا أصبح أمر حتمياً: قد لا يكفي تعليم التلاميذ اساسيات التعامل مع الحاسوب ولا التعلم عبر الحواسيب، بل اصبح تعليم البرمجة أمراً ضرورياً. يبدو هذا خطوة صغيرة لكنها ضرورية لتخريج طلاب يملكون مهارات عالية ويعول عليهم لبناء اقتصاد قائم على المعرفة. 
     
  5. عدم إهمال العلوم الانسانية:  يتصور الكثيرون وبسبب الطلب العالي على مهن مثل الطب والهندسة والصيرفة وغيرها اضافة الى بضعة أوهام راجت منذ ثمانينات القرن الماضي، ان دراسة العلوم الانسانية أقرب لأن تكون مضيعة للوقت وخسارة للمستقبل. ستبقى الحاجة للعلوم الإنسانية قائمة وضرورية كي تبقى لدى مجتمعاتنا القدرة على فهم مشكلاتها وواقعها وأنسنة التنمية وتوجهاتها بشكل عام. 
     
  6. المنافسات الشاملة بين المدارس والجامعات: يجب ان يدخل طلاب المدارس وطلاب الجامعات في الدولة في منافسات شاملة في كل الميادين وكل التخصصات: مسابقات في العلوم والابتكارات بكل انواعها، مسابقات في العلوم الانسانية، مسابقات في اللغات مع تركيز أكثر على اللغة العربية، مسابقة في المسرح ومسابقات رياضية على شكل دوري للمدارس في جميع الألعاب ودوري للجامعات في جميع الألعاب. تبدو المدارس والجامعات وكأنها جزر معزولة لا يربطها أي شيء. ايجاد أطر للتنافس بين المدارس لا يرمي لاكتشاف الموهوبين فحسب، بل انه الوسيلة الأكثر فعالية لإكساب الطلاب ميزات ستطلب منهم في المستقبل: القدرة على التنافس. في مقاربة أخرى، يتعين ان تكون المدارس والجامعات جزءاً أساسيا من الفضاء العام عندما تتحول منافسات المدارس ودوري المدارس الى حدث على المستوى الوطني الشامل. يكن تخيل كيف يمكن ان تسهم منافسات من هذا النوع في تعميم المعرفة على المستوى الوطني لدى مئات الالاف من الطلاب والطالبات.
     
  7. لا تترك أحداً خلفك: لطالما جرت غالب الدول أنظمة تعليم تقوم على فرز الموهوبين واللامعين من الطلاب في مدارس خاصة بالذين يبدون ذكاء عالياً عن السائد في تحصيل دروسهم. وفي وقت لاحق عاب بعض التربويين على نظام مثل هذا تكريسه لنوع من التمييز بين الطلاب بحيث ان فرز الطلاب بهذا الشكل قد يؤدي الى الاهتمام بالموهوبين والاذكياء والتعامل كالمعتاد مع الباقين او باعتبارهم حالات لا ترتجى منهم فائدة. لقد اسهم هذا في التخلي عن مدارس الموهوبين في اكثر من بلد، لكن الطلب العالي على المهارات العالية في اسواق العمل في وقتنا الحاضر وطموحات بناء اقتصاديات قائمة اكثر واكثر على المعرفة لا على انتاج السلع، وخطط تطوير التعليم نفسها، عززت القناعة بضرورة التركيز على الموهوبين والأذكياء في المدارس. لقد ترجم هذا نفسه في اكثر من صيغة سواء عبر اندية النشاطات الخاصة مثل الأندية العلمية والمسابقات وغيرها او عبر صيغ أخرى.

    هناك وجه آخر للموضوع هنا هو "المتسربين من التعليم". في جميع مراحل التعليم، هناك متسربين لسبب أو لآخر. واذا كانت التشريعات قد جعلت التعليم الزاميا حتى المرحلة المتوسطة في الغالب، فان المتسربين او الذين توقفوا عند مرحلة الثانوية العامة يبقون بحاجة لتطوير قدراتهم ومعارفهم ومهاراتهم. هنا، تبدو الحاجة قائمة الى برامج تعليم وتدريب في كل المجالات تتجاوز برامج التدريب المهني القائمة في معظم البلدان، المبدأ هنا هو جعل التعليم مستمرا ومفتوحاً.
محمد أحمد يوسف العبيدلي

محمد أحمد يوسف العبيدلي

مستشار

المزيد

مجالات الخبرة

  • الشؤون الاقليمية
  • السياسات العامة
  • الشؤون الجيوستراتيجية

التعليم

  • كلية الاقتصاد والعلوم السياسية (جامعة القاهرة)

السيرة الشخصية

خلال سنواته المهنية الطويلة في الصحافة التي بلغت 30 عاما، شغل العبيدلي العديد من المسؤوليات خصوصا في الشؤون العربية والدولية حيث قام بتغطية العديد من الاحداث الساخنة في منطقة الخليج العربي خصوصا الحرب العراقية – الايرانية وحرب تحرير الكويت. كما تخصص في تغطية التطورات والشؤون الاقليمية في منطقة الشرق الاوسط خصوصا الشأن الفلسطيني اضافة الى الشأن السوداني كما تخصص في السنوات الاخيرة في شؤون حركات الاسلام السياسي.

كتب للصحافة المحلية والخليجية كما عمل لمدة عشر سنوات مراسلا لوكالة الصحافة الفرنسية وعمل محررا في شهرية لوموند ديبلوماتيك (النشرة العربية). اسهمت هذه الخلفيات في ترسيخ قاعدة متينة للانتقال الى ميدان الابحاث والدراسات.