حملت التطورات الاقتصادية مع نهاية التسعينيات اتجاهاً متعاظماً نحو العولمة الاقتصادية امتدت لتشمل اسواق العمل. فبعد عقود من التعامل مع سوق العمل باعتباره شأنا وطنيا بحتاً، فرضت جملة من العوامل واقعاً جديداً. فالارتباط المتزايد بشبكات الاقتصاد العالمي والسعي المتزايد لجذب الاستثمارات العالمية والاعتماد شبه المطلق لأسواق العمل في دول الخليج على العمالة الاجنبية، فرضت كلها ان يتحول سوق العمل الى سوق معولم.
قد تغيب هذه الحقيقة عن النقاش العام في موضوع التوظيف والتوطين الذي يمثل احد الهموم الأساسية في النقاش على المستوى الوطني وهو امر طبيعي على اية حال. لكن هل تسير آليات خلق الوظائف وعمليات التوظيف في سوق معولمة مثلما هي الحال في سوق وطنية بالكامل تتحمل الدولة المسؤولية فيها بدءأ من خلق الوظائف وصولاً الى تشغيل الخريجين وطالبي العمل بشكل آلي؟
الحقيقة الاساسية التي يتعين ان نستوعبها هي ان السوق المعولم يتسم بأن المنافسة فيه مفتوحة بين المواطن وغير المواطن.
لأكثر من سبب مرتبطة بطبيعة الاقتصاد نفسه وقوانين السوق المفتوح وما تفرضه الاتفاقيات الدولية، لا يمكن اتباع سياسات تفضيلية هنا، فحجم الاقتصاد ومتطلباته يفوق بكثير ما يمكن ان توفره قوة عمل وطنية من حيث الكم، لهذا تبدو الحاجة قائمة ومستمرة للعمالة غير المواطنة لمواكبة متطلبات هذا الحم المتزايد للاقتصاد وقطاعاته العديدة.
لقد تغيرت اسواق العمل في دول الخليج وتحولت الى اسواق معولمة تتميز بالتنافس المفتوح خصوصا في البحرين والامارات. ففي البحرين تنشر الصحف اعلانات الوظائف الشاغرة بالعربية وبالإنجليزية وفي الامارات تنشط شركات التوظيف وتتلقى طلبات التوظيف من مختلف انحاء دول العالم.
تقتضي هذه الحقيقة تغيرا في القناعات وفي الطريقة التي ننظر بها الى مسألة خلق الوظائف والتوطين. فالمناقشات التي تدور في الفضاء العام في الامارات مازالت محكومة بالجدل القديم الذي يتمحور حول مجموعة من المقولات التي تحتاج لإعادة نظر.
فالمنافسة المفتوحة في سوق العمل تقتضي اول ما تقتضيه تطويراً لمهارات الخريجين المواطنين الذين يدخلون سوق العمل سنوياً سواء من خريجي الجامعات او خريجي المدارس. لقد تحول هذا في السنوات الأخيرة الى برامج عمل تبنتها الحكومة عبر صناديق تمويل اصحاب المشاريع المتوسطة والصغيرة وعبر برامج تدريب متخصصة في مجالات عدة، لكن هذا كله لا يبدو كافياً حيث ما تزال الشكاوى تصدر من وقت لآخر التي تعيد تكرار اتهام اجهزة الدولة بالتقصير في حل مشكلة توظيف الخريجين والعاطلين عموماً.
ان مسؤولية الحكومة، اي حكومة في العالم ستبقى واضحة في ملف التوظيف وهو العمل على خلق الوظائف عبر خلق فرص النمو الاقتصادي. وفي ظل اقتصاد حيوي مثل اقتصاد دبي، تضاف الى الاقتصاد الوطني قطاعات جديدة تحمل معها مئات الآلاف من الوظائف، فلماذا تستمر الشكاوى والمطالبات والاتهامات بالتقصير في ملف التوظيف؟
على الارجح، فإن هذه الشكاوى تصدر عن ذلك الفهم التقليدي القديم الذي يرى ان الدولة مسؤولة عن توظيف مواطنيها بغض النظر عن اي شيء. وهي مسؤولية لم تتخل عنها حكومة الامارات في يوم بل وضعت لها العديد من المبادرات والصناديق على المستوى الاتحادي وعلى مستوى كل امارة ايضا لتدريب وتأهيل المواطنين من الجنسيين لدخول سوق العمل ورفع مستوى تنافسية اليد العاملة المحلية.
وفيما لا تزال تصورات المواطنين حول التوظيف والتوطين تتركز حول القطاع الحكومي، فإن الفرص الحقيقية للوظائف والتوطين يبدو كامنا في القطاع الخاص اكثر من القطاع العام. ففرص النمو والقطاعات الاقتصادية الجديدة التي تخلقها الخطط والتوجهات الاقتصادية تتركز كلها في القطاع الخاص.
هنا سنصل بالضبط الى المشكلة التي ما تزال تمثل عائقاً كبيراً امام الانخراط المتزايد للشباب من المواطنين في سوق العمل، حيث ما تزال شرائح كبرى من المواطنين تتحاشى القطاع الخاص وتنظر اليه باعتباره سوق عمل خاص بالأجانب.
ما يزال الاماراتيون ينظرون بتوجس للقطاع الخاص لأسباب شتى مثل الرواتب المتدنية وقلة الاجازات وساعات العمل الطويلة مقارنة بالقطاع الحكومي، لكنهم يغفلون عن المميزات الكبرى التي تتيحها لهم قطاعات عديدة ماتزال تمثل فرصا كبرى واعدة امامهم في ادارة الاعمال وتأسيس الشركات الناجحة.
لعل هذا العزوف يفسر ارقام معدل البطالة في امارة دبي مثلا التي تظهر معدلا اعلى للبطالة لدى الاماراتيين بالمقارنة مع غير الإماراتيين. ففيما بلغ هذا المعدل لكلا الجنسين من المواطنين 4.2 ينهاية العام 2019 بلغ 0.3 لدى غير الإماراتيين في نفس العام وفق بيانات مركز دبي للإحصاء.
يعزى تفسير هذه الارقام الى تركز غير الاماراتيين في القطاع الخاص بالأساس وغياب المواطنين عن هذا القطاع.
قد يعود هذا في جزء من الاسباب الى كون التغييرات الجديدة في سوق العمل من حيث تزايد الاتجاه نحو وظائف ذات صلة بالمعرفة والذكاء الاصطناعي وتزايد الطلب على وظائف تحليل البيانات والمعاملات الرقمية والبرمجة وصولا الى التخصصات العالية مثل تصنيع السيارات ذاتية القيادة والطائرات دون طيار وتصنيع الروبوتات، ما تزال توجهات في مرحلة انتقالية لم تترسخ بعد في سوق العمل.
رغم هذا الاتجاه، فإن المنافسة ممكنة للشباب من المواطنين في مجالات ماتزال تعتبر تقليدية، مثل قطاع الخدمات وقطاع الفندقة والخدمات المرتبطة بالقطاع العقاري مثل ادارة وصيانة المباني. ان القطاع العقاري المزدهر في دبي، يوفر آلاف الفرص للشباب من المواطنين للدخول فيه وبقوة في مجال ادارة المباني وصيانتها وتقديم خدمة ذات جودة تتجاوز مستويات الخدمة السائدة حالياً. كما ان قطاع السياحة والسفر يوفر الفرص نفسه ناهيك عن قطاع التجزئة.
ان دعم الحكومة لبرامج التوطين وتنويع المبادرات المكرسة لهذا لغرض لن يكون لها نتيجة اذا ما غاب عن الاذهان ان سوق العمل في الامارات ليس هو سوق العمل الذي كان قبل عقدين او ثلاثة عقود وانه لم يعد سوقا وطنيا محدودا لتوظيف الخريجين بل سوق معولم يتطلب بالأساس خريجين قادرين على التنافس ويمثلون خيارا مفضلاً لأصحاب العمل، بل وينطلقون لتأسيس مشروعاتهم الخاصة ويسهمون مع الحكومة في توليد الوظائف وفرص النمو.