كان بإمكان ذلك الخطأ الذي اقترفه العامل الاجنبي ان يقتل احداً من افراد الاسرة او اكثر، وبالنهاية فان الهلع من فكرة موت احد الاطفال او الزوجة او الخادمة او رب الاسرة نفسه، زاد في وطأته الاحساس بالخديعة والإستغفال: من ادعى انه كهربائي لا يعرف شيئا عن الكهرباء. وبالبحث عنه اختفى تماما.
يتجدد الجدل لدى الاماراتيين والخليجيين عموما حول العمالة الاجنبية بعد كل حادث درامي يهز المجتمع بأسره: عقب مقتل الطفلة الرضيعة سلامة في شهر يوليو على يد خادمة أجنبية اتهمت بقتلها بعد ضربها على رأسها عدة مرات. وقبل حوالي شهرين بعد مقتل الطفل الاردني عبيدة على يد مواطن اردني من اصحاب السوابق في بلاده. في كلا الحادثين يتساءل الاماراتيون: كيف جاء هؤلاء الى بلادنا؟ ويزيد بعضهم بالقول ان ثمة ثغرات سمحت لأمثال هؤلاء بالدخول والبقاء في بلادنا. وفي كل الاحوال ينال ذوي الضحايا شيئا من اللوم، فوالد عبيدة نال اللوم لأنه اهمل ولده وتركه ليلتقطه الجاني بكل سهولة. وثمة من لام ذوي الطفلة سلامة وكل عائلة مواطنة تعتمد بشكل اتكالي على الخادمات الاجنبيات في رعاية ابنائهن.
في الواقع، يعيد الاماراتيون والخليجيون عموما طرح التساؤلات التي يؤجلون اجوبتها حول الوجود الاجنبي الكثيف في بلادهم مرارا بعد كل جريمة من هذا النوع وكل مأساة مماثلة.
من الملام حقاً: هل هم المواطنون الذين اصبحوا لا يستغنون عن خادمة اجنبية او عن العمال الاجانب بشكل عام لشغل الوظائف الدنيا؟ هل هم الاجانب الآتين من دول ومجتمعات فقيرة بحثا عن الرزق؟ ام انها الحكومات وسياساتها التي ما تزال قاصرة على التمييز الحقيقي بين الكفاءات الحقيقية من الاجانب ومن هو فائض عن الحاجة فعلا.
يبرز هذا الجدل المتجدد مجموعة من الحقائق حول العمالة الاجنبية في الامارات ودول الخليج عموما اضافة الى تصورات ترمي الى تصحيح جملة من الاختلالات التي ماتزال تتسبب في الكثير من المشكلات سواء في سوق العمل والاقتصاد الوطني ناهيك عن التأثير المباشر في الحياة اليومية. لقد اثبتت التجربة حتى اليوم ان جلب عامل اجنبي لا يتطلب اكثر من ملئ استمارة فحسب. ومهما تعددت الشروط المطلوبة من السلطات في دول الخليج، فان التحقق من العامل وامكانياته ومهاراته امر مرهون فقط بملىء خانات في استمارات ورق ليس الا. لا توجد اي هيئة او جهة تدقق في الشهادات المرفقة في اوراق العمال الاجانب سواء التي تقدم بشكل فردي او عن طريق وكالات تشغيل ولا في صحة الاوراق التي يقدمونها من عدمه. اصبح هذا هو المدخل الاساس لكي تعج بلدان الخليج بالألاف من العمال الاجانب غير المهرة وغير المؤهلين والذين لا يحملون اي مؤهل مهني من اي نوع والمستعدين للعمل في اي شيء لمجرد الحصول على عمل. يتسبب هذا في تدني المهارات في سوق العمل وتدني الجودة في الخدمات عموماً، مثال المواطن الذي كاد يموت هو او احد افراد اسرته بسبب غش عامل اجنبي في مثال الماء المكهرب ذاك يمكن تعميمه على مجالات عدة. ثمة شائعة تتردد في اكثر من بلد خليجي هو ان أحد بلدان اسيا المصدرة للعمالة تعمد الى السماح للسجناء المحكومين لديها بالتوجه للعمل الى دول الخليج لتخفيف اعباء رعايتهم عن كاهلها.
التدريب
الوجه الآخر للمشكلة هو ان هؤلاء يتم ضمهم لأعمال متنوعة من الاعمال الفنية مثل الكهرباء والسباكة والبناء الى الخدمات بأنواعها. لكن في الغالب لا يتم تدريبهم الا في الحدود الدنيا جدا التي تلبي متطلبات صاحب العمل فقط. وفي الغالب يتعامل الخليجي
مع هؤلاء على اعتبار انهم يفهمون كل شيء ويتوقعون منهم ان يقوموا بمهماتهم على اكمل وجه.
في مثال العمالة المنزلية، فان غالب النساء اللواتي يتم جلبهن للعمل مربيات يأتين من ارياف الدول المصدرة للعمالة سواء من الهند او سيرلانكا او الفلبين او اثيوبيا ولا يحملن شهادات او مؤهل من اي نوع في تربية الاطفال او رعايتهم، هن مجرد نسوة فقيرات يحتجن للعمل بشدة. لكن العائلات الخليجية تتعامل مع الخادمات او المربيات المجلوبات عن طريق مكاتب الخدم على اعتبار انهن يفهمن كل شيء يتعلق برعاية المواليد والحفاظ على صحتهم ومثلهم الرجال عندما يستعينون بأشخاص يقدمون انفسهم على انهم عمالة فنيين او مهرة ويتضح انهم لا يعرفون اساسيات بسيطة في المهنة. السبب ببساطة هو انهم ليسوا كذلك.
هكذا فان السياسات التي لم تؤد الا الى اغراق السوق بالآلاف من العمال الاجانب بات تأثيرها واضحا في تدني المهارات في سوق العمل فحسب، اضافة الى اسهامها في ظهور نوع جديد من الجرائم في المجتمعات الخليجية، الجرائم التي يرتكبها المقيمون الأجانب
. ورغم انها قليلة احصائيا، إلا ان جرائم مثل مقتل الطفلة الرضيعة على يد خادمة ضربتها بشكل متواصل على رأسها وجرائم اخرى غيرها تنطوي تفاصيلها على بشاعة ايضا، تظهر المخاطر التي تحملها السياسات المتبعة حاليا في جلب العمالة دون تدقيق ودون اجراءات وقائية.
ان هذا الجدل المتجدد حول العمالة الاجنبية ومدى حاجتنا لها ومشاعر الصدمة التي تتولد من جرائم من هذا النوع اضافة الى تحديات اخرى، باتت تفرض علينا مراجعة وتطوير سياسات استقدام العمالة الاجنبية، فالأمر لم يعد مشاعر صدمة اعقبت جريمة بشعة، بل ان الطموحات العالية لسوق العمل باتت تفرض معالجة المهارات السائدة في السوق باعتبارها خطوة ضرورية لتحقيق هذه الطموحات. فلا يمكن الحديث عن تطوير في سوق العمل بالتباهي بمجرد زيادة عدد المواطنين فيه بل لتطور مستوى المهارات فيه.
أما الجرائم البشعة الاخرى مثل جريمة قتل الطفل عبيدة على يد مواطن اردني صاحب سوابق، فهي دقت الناقوس حول خلل وثغرات في اجراءات منح التأشيرات سمحت لصاحب سوابق في بلده ان يدخل الامارات ويقيم فيها ويستمر في الاقامة بعد انتهاء مدة اقامته ويرتكب جريمة بشعة مثل التي ارتكبها.
في معرض ردود الفعل التي اعقبت تلك الجريمة، راح غالب معلقي الصحف المحلية العربية والانجليزية يطالبون بالتشدد في منح التأشيرات ومحاولة معرفة سجل الاشخاص الذين يعتزمون دخول الدولة او زيارتها. وإذا ما اضفنا الى ذلك حالات المتسولين الذين يقبض عليهم ويتضح انهم دخلوا بتأشيرة سياحية، فان هذا كله يجعل المراجعة أمراً لا غنى عنه.
إذا وضعنا الجانب الأمني جانبا، فان أكثر من يهمنا هو تلك الاجراءات المتعلقة بجلب العمالة. اي تلك المتعلقة بمن سنثق فيهم لرعاية ابنائنا فيما نحن في اع
مالنا وبأولئك الذين يتعين ان نثق فيهم في الاعمال التي يتولونها، باختصار شديد بأولئك الذين يديرون حياتنا اليومية.