السبت, 21 ديسمبر, 2024

السياسة الكمية في الشرق الأوسط

تفسح الجغرافيا السياسية التقليدية، التي تتميز بالمخاوف والتحالفات الإقليمية، الطريق أمام "سياسة كمية" جديدة في الشرق الأوسط. يتميز هذا التحول بشراكات تتجاوز الجغرافيا، وانعدام التوافق الأيديولوجي، والتركيز على التعاون بدلاً من الدفاع. مدفوعة بقضايا عالمية مثل تغير المناخ واستدامة سلسلة التوريد، قد يؤدي هذا النهج إلى حل التوترات طويلة الأمد وتعزيز الاستقرار العالمي. ومع ذلك، فإن المفهوم جديد ويتطلب وقتاً للتطبيق الفعال.


"الجغرافيا السياسية هي الدافع وراء معظم الصراعات الدولية". هكذا وصف أيان بريمر تأثير الجغرافيا السياسية في كتابه عام 2015 "القوة العظمى: ثلاثة خيارات أمام الدور الأمريكي في العالم". وسواء كانت الصراعات على ضفاف الأنهار الخصبة، أو الهضاب المحصنة، أو الموانئ الطبيعية أو حتى الأماكن المقدسة أو على الموارد الطبيعية فإن القادة السياسيين والعسكريين أدركوا دائما أن الجغرافيا هي مكمن القوة.
تاريخ الشرق الأوسط عرف بهذا النوع من الصراعات على المواقع الجغرافية الاستراتيجية، فالصراع على مياه نهر النيل استمر منذ عهد النبي موسى عليه السلام ولا زال يتجلى في التداعيات السياسية لسد النهضة الإثيوبية العظيم. كما أن الصراعات على الموانئ الكبرى امتد منذ الحروب البونيقية التي امتدت بين 264 وحتى 146 قبل الميلاد بين روما وقرطاج ولا تزال تلك المعارك ماثلة حتى اليوم كما يتضح في أهمية ميناء الحديدة الذي يطل على البحر الأحمر في حرب اليمن. 

كما أن الأماكن المقدسة كانت أيضا أساس الصراعات على الجغرافيا والتي امتدت منذ محاولة أبرهة الحبشي هدم الكعبة ثم في الحروب الصليبية وحتى الصراع الحالي حول هوية القدس والحرم الشريف.

إن التاريخ الحديث لصراعات الشرق الأوسط يشير إلى أن الدول في المنطقة لم تبتعد كثيرا عن الفيزياء الكلاسيكية للصراعات، فاحتلال فلسطين ثم الحرب العراقية الإيرانية وغزو العراق للكويت ثم حرب الخليج الثانية وحتى الحرب الأهلية في اليمن كان محورها جميعا النزاع للسيطرة على المكان سواء كان ذلك احتلال الأراضي أو استرجاعها.  إن الخروج من تلك الدائرة يتطلب الإفلات من جذر جميع تلك الصراعات: الجغرافيا.

إن التوجه الجديد في المنطقة تجاه "خفض التصعيد" قد تعبر عنه أوضح ما يمكن الاتفاقيات الإبراهيمية التي وقعتها في البداية إسرائيل مع الإمارات والبحرين ثم انضمت لها لاحقا المغرب والسودان، كما أن الاتفاق بين السعودية وإيران هو آخر الجهود لإلغاء فكرة الصراع بين الأعداء التقليديين في المنطقة.

رغم أن الاتفاق الإبراهيمي لم يكن أول اتفاق سلام بين إسرائيل ودول عربية، حيث سبقتها مصر والأردن، فإن الفرق الجوهري بينهما أن كلا من الإمارات والبحرين لا يجمعهما مع إٍسرائيل حدود مشتركة، كما أن الاتفاق لم يتضمن تبادل أراضي أو اتفاقيات حدودية ونظرا لأن الدولتين لم ينخرطا في صراع مباشر يجعل اتفاق السلام مختلفا جذريا.

إن الفرق بين سلام مبني على صراع على الجغرافيا مقابل سلام لا يعتمد عليها هو كالفرق بين الفيزياء الطبيعية والفيزياء الكمية. فالاتفاقات الإبراهيمية لم تحكمها ديناميات الجغرافية السياسية كحال معظم الصراعات بل عبر نمط جديد من الاعتبارات تمثل المحرك الأساسي لتعامل جديد مع قضايا المنطقة المزمنة.

لقد كانت تلك هي الاعتبارات التي سادت قمة مجلس التعاون الخليجي في العلا 2021 والتي شهدت انهاء القطيعة بين الإمارات والسعودية والبحرين من ناحية مع قطر والتي تبعها استعادة العلاقات الإماراتية مع تركيا والتي أدت إلى وقف التوتر بين تركيا والسعودية وبعدها تركيا ومصر. إن تلك الأمثلة لا يمكن تفسيرها عبر تفسير البراغماتية لرئيس الوزراء البريطاني الأسبق اللورد هنري تمبل حول عدم وجود صداقة دائمة أو عداء أبدي ولكنها أقرب لما وصفه ثيودور بيكر في كتابه "سياسة كمية".

مبادئ جديدة في الشرق الأوسط

إن التغيرات الحالية في الشرق الأوسط والتي يحكمها توجه نحو خفض التصعيد والافتكاك من الاستقطاب السياسي قد تكون عارضا لتغيرات أكثر عمقا. وقد تكون هناك ثلاثة مبادئ حاكمة هي ما تفسر البعد "الكمي" في تغيرات السياسة في المنطقة.
1. ما بعد الجغرافيا: لم تعد الجغرافيا هي أساس التعاون السياسي في المنطقة. ففي حين أن المنظمات الإقليمية المبنية على التماس الجغرافي مثل مجلس التعاون الخليجي، مجلس الدول العربية والأفريقية المشاطئة للبحر الأحمر وخليج عدن ستستمر قيمتها كمنظمات مبنية على الجغرافيا فإنها لن تكون الوسيلة الوحيدة لتطوير الشراكات والتحالفات عبر الأقاليم. وقد يكون أحد أوضح تجليات ذلك هو التوجه لتبني "اتفاقيات الشراكة الاستراتيجية المتكاملة" و "اتفاقيات الشراكة الاقتصادية المتكاملة" مثل تلك التي تجمع دولة الإمارات مع دول خارج نطاقها الجغرافي المباشر مثل ألمانيا والصين وروسيا واليابان والهند وإسرائيل وإندونيسيا والنمسا وتركيا. فجميع تلك الدول لا تمتلك أي حدود مباشرة مع الدولة ورغم ذلك فإن المنافع ضخمة جدا كما هو الحال مع الاتفاقيات مع الصين والهند والتي تتضمن نقل المعرفة والأمن الغذائي والصحي. إن العلاقات الثنائية التي لا تعتمد فقط على الجغرافيا أصبحت أيضا وسيلة لتطوير علاقات ثلاثية ورباعية خارج الحدود الجغرافية مثل اتفاق I2U2 والذي يضم الهند وإسرائيل والإمارات والولايات المتحدة وهو ما يفتح الباب أمام تعاون يتجاوز حدود الجغرافيا.
2. الترابط واللاقطبية: لم تعد القطبية السياسية الديناميكية الحاكمة في العلاقات السياسية. ففكرة وجود مركز جاذبية أيديولوجي يجتذب لمداره دول عدة كما هو في مفاهيم الرأسمالية أو الشيوعية لم يعد أساسا للتحالفات، بل عوضا عن ذلك فإن نماذج توسيع التعاون الاقتصادي أصبحت تقرب بين دول لا تشترك في الكثير من التوجهات الأيديولوجية. إن مبادرة الحزام والطريق الصينية تمثل أحد الأمثلة البارزة لأجندات الارتباط العالمية التي يمكن أن تستبدل القطبية الأيديولوجية كأساس لنظام عالمي جديد، وتقدم حلول جديدة لمشاكل قديمة. إن مشاريع مثل الكهرباء مقابل الماء بين إسرائيل والأردن ومد شبكة الكهرباء الخليجية إلى العراق جميعها أمثلة على الوسيلة التي يمكن أن تقلل عبرها مشاريع الترابط من التوتر الجيوسياسي. إن مبدأ "الترابط" بطبيعته يحتم نبذ القطبية. ففي السياسة الكمية فإن التحالفات لا تتم بناء على التوجه السياسي أو تكتلات الهوية سواء قومية أو دينية، بل على العكس فإن العالم المترابط يحتم وجود القدرة لدى الدول على تطوير مجالات مختلفة للترابط بغض النظر عن الخلافات السياسية حتى مع غرمائها. إن أفكار مثل "الشرق ضد الغرب" ستصبح قريبا أشبه بالنظم التماثلية التي تعتمد على مفاهيم الحقبة الاستعمارية وصراعات الحرب الباردة حيث أن في السياسة الكمية لا يوجد شرق وغرب. ينطبق ذلك على ما يسمى بالجنوب العالمي المناهض للشمال العالمي حيث أن تلك الفكرة تتناقض مع مفهوم الترابط. فمثل أي شبكة فإن مفاهيم الترابط تعتمد على التحرك والتبادل الحر للبضائع والأموال والبشر والمعلومات في حين أن القطبية تحد من ذلك التبادل.
3. التعاون كأساس للأمن: إن المفاهيم التقليدية حول الأمن كانت تعتمد دائما على مفهوم "الدفاع" سواء كان ذلك عبر الأسوار أو الجنود، وهو ما يجعل جميع سياسات الأمن الوطني تعتمد على تحديد الأعداء المحتملين وتقييم المخاطر واعداد وسائل ردع الاعتداءات أو الرد عليها. غير أن المزاج الحالي في المنطقة يعتمد على التعاون لمنع احتمالات حدوث الصراع وليس منع الصراع نفسه. ويعد ذلك المبدأ أساس التفاهمات السعودية الإيرانية والتفاهمات الإماراتية التركية كما كان هو أساس الاتفاقات الإبراهيمية. من ناحية أخرى فإن فتح قنوات التعاون الرسمية يقلل الاعتماد على القوى ما دون الدولة وبالتالي يقلل الحاجة للحروب بالوكالة. وفي حين أن البعض يرى أن توجه تطوير التعاون الاقتصادي فشل كوسيلة لمنع الصراع بين أوروبا وروسيا فإن ذلك التوجه لا يزال فعلا في خفض التوتر بين كوريا الجنوبية والصين.

الانعكاسات الإقليمية والعالمية
إن توجه دول الشرق الأوسط للابتعاد عن المبادئ الجيوسياسية كحاكم لعلاقاتها قد لا يبقى في المنطقة أساسا لأن محركه هي القضايا العالمية مثل التغير المناخي وأمن الطاقة والغذاء والصحة إضافة إلى استدامة وأمن سلاسل الإمداد العالمية.
إن هذه المقاربة "الكمية" للسياسة قد تساهم في تقلل التوترات التي تحجرت بين إسرائيل وإيران باستخدام الجسور التي تبنيها كل من الإمارات والسعودية على الجانبين. إن النظر إلى ما وراء الشرق الأوسط قد يشير إلى القدرة على التعامل مع توترات مزمنة في مناطقة بلغت العسكرة فيها درجة خطيرة مثل بحر الصين الجنوبي. إن مشاريع ترابط جديدة مثل استخدام ممكنات الاقتصاد الأزرق لحوكمة التعاون في البحار الزرقاء أو مد الأنفاق تحت البحر بين دول مثل الإمارات وإيران واليمن وجيبوتي قد تفتح أفاق جديدة غير مسبوقة للتعاون الاقتصادي وتقلل من حدة بعض أكثر المشاكل تكلسا في المنطقة.

كما هو الوضع في الفيزياء الكمية، فإن السياسة الكمية فكرة جديدة وستتطلب وقتا طويلا حتى يتم فهم إمكانياتها بالكامل وتطبيقها بشكل صحيح، غير أن المفهوم قد تم إثباته بالفعل. 

محمد عبد الرحمن باهرون

محمد عبد الرحمن باهرون

المدير العام

المزيد

مجالات الخبرة

  • جيو-استراتيجية
  • السمعة والقوة الناعمة
  • السياسة العامة والعلاقات الدولية

التعليم

  • حاصل على درجة الماجستير في الأدب الإنجليزي من جامعة تكساس التقنية عام 1995.
  • تخصص اللغة الإنجليزية من جامعة الكويت عام 1987

السيرة الشخصية

 يعمل حاليا مديرا لمركز دبي لبحوث السياسات العامة (بحوث) وقد شارك في تأسيس مركز "بحوث" في عام 2002 في دبي، وهو مركز بحثي يركز على السياسات العامة والشؤون الجيوستراتيجية والعالمية ودراسات الرأي العام.

عمل نائبا للمدير في برنامج وطني المجتمعي لتعزيز الهوية الوطنية وممارسات المواطنة الصالحة منذ تأسيسه في 2005.

شارك كعضو مؤسس في مجلس إدارة "معهد بوصلة" في بروكسل الذي يهتم بالعلاقات الخليجية الأوروبية.

عمل كمحرر لمجلة العربي ومحررا في صحيفة الاتحاد، وسكرتير تحرير مجلة الدفاع الخليجي وعمل في شؤون الاتصال الاستراتيجي في المؤسسة العامة للمعارض في أبوظبي.

 مهتم بالربط بين السياسات العامة وبين التطورات السياسية الدولية والإقليمية والتأثير المتبادل بينهما.