وفي معرض تعليقه على الأزمة الراهنة، أشار د. عبد الخالق عبد الله وأستاذ العلوم السياسية السابق بجامعة الإمارات إلى أن "حالة الانقسام التي حدثت في الخامس من يونيو أثّرت سلباً على صورة المجلس، كما عطلت أنشطته وجمدت اجتماعاته وزعزعت تماسك دوله، بل وامتدت لتلامس النسيج الاجتماعي الخليجي الذي كان دائماً بمنأىً عن الخلاف السياسي الخليجي. الآن أصبحت المنظومة الخليجية، التي كانت نموذجاً للاستقرار، متخمة بالتوترات التي لا تلوح لها في الأفق أي نهاية([2])".
وقبل سنوات، كان الباحث البحريني الدكتور د عبد الله المدني قد دعا "إلى ضرورة تفعيل لجنة تسوية المنازعات في المجلس لحل النزاعات الخليجية البينية([3])".
ورغم نجاح المجلس في مواجهة الكثير من التحديات في العقود الثلاثة الماضية، إلا ان السؤال يطرح نفسه حول إخفاقه في حل مشكلة تباين الرؤى داخل البيت الخليجي حتى الآن؟ لقد كان حرياً به إعداد دراسات مستفيضة استناداً على الحساسيات الثقافية والوقائع التاريخية والاستفادة من لجانه القانونية وعلاقاته الداخلية والخارجية لوضع سيناريوهات مرضية لكافة الأطراف. كان ينبغي تطوير آليات فض النزاعات وآليات الإنذار المبكر لوضع الأمور في نصابها قبل أن يزداد الوضع استفحالاً. إن حل النزاعات يحتاج إلى قاعدة معرفية كاملة وآلية قانونية وتحكيمية متكاملة وأشخاص عاليي الكفاءة حتى لا تؤثر على سير العمل والتجارة والنقل والمصالح المشتركة بين الأطراف.
يتعين البحث عن جواب لهذا التساؤل في بعض الكتابات والأبحاث. فقد أشار د ماتيو ليجرنزي الأستاذ المشارك في العلاقات الدولية في جامعة كافوسكاري في البندقية، ورئيس الجمعية الإيطالية لدراسات الشرق الأوسط، إلى أن مجلس التعاون الخليجي "غير مؤهل بما يكفي لخدمة أغراض مؤسسية إقليمية، واعتبره هيكلا أجوف، الغرض منه أساساً استعراض مظاهر الوحدة وتعزيز خطاب الهوية الخليجية واستبعاد الكيانات الأخرى" مضيفا أن "قضايا مثل الهيبة والسمعة وأماكن عقد الاجتماعات واعتبارات الوجاهة والاعتبارات الشخصية تأخذ حيزا أكبر من اهتمامات المجلس([4])".
ثم دلف بعد ذلك للقول بأن الإنجازات التي تحققت حتى الآن تعتبر قليلة إذا ما قورنت بإنجازات المنظمات الدولية الأخرى مثل الاتحاد الأوروبي وإتفاق التجارة الحرة لأمريكا الشمالية، هذا على الرغم من أن النظام الأساسي لمجلس التعاون الخليجي مستوحى من المواثيق التأسيسية للمنظمات الدولية الأخرى ولاسيما الاتحاد الأوروبي. ويضيف الكاتب بأن ما ذكر جعل المجلس يفقد المصداقية على المستوى الدولي.
إن المجلس الذي مضى على تأسيسه زهاء 36 عاماً لا تنقصه الموارد والخبرات. كما أن الوساطات وسياسات الاسترضاء والاحتواء كانت تنجح في أغلب الأحيان في لم الشمل الخليجي وإصلاح ذات البين. فقد تمكن المجلس من احتواء النزاع الذي اندلع في مارس 2014 والذي أفضى إلى سحب السعودية والبحرين والإمارات سفرائها من قطر. إذ سرعان ما عادت المياه إلى مجاريها في نوفمبر من نفس العام بعد أن أعلنت حكومة دولة قطر التزامها ببعض ما جاء بالمقررات التي تم التوافق عليها سابقًا بمجلس التعاون الخليجي وظل حبل الود موصولاً بين الدول الخليجية.
السؤال الذي يلح على الأذهان هو: ما الذي استجد هذه المرة؟ يعتقد بعض المراقبين أن الأسباب التي قادت إلى "اندلاع الأزمة الخليجية الحالية مجدداً كانت تعتمل منذ فترة طويلة بين دول المجلس، وأبرزها دعم قطر لجماعات متطرفة وتأييدها إيران في مواجهة دول الخليج الأخرى وسعيها لزعزعة استقرار الدول الأخرى المقاطعة، إلا أن المرء يرى أن إطالة أمد الأزمة التي تدخل الآن شهرها السادس ربما يبوء بما هو أعمق ويجعل البعض في حيرة تشخيص المشهد.
يعتقد باحثون أن رياح تغيير حقيقية بدأت تهب على دول المجلس، وقد أشار المدني إلى أن "الشرخ جاء نتيجة الضغوطات الامريكية والأوروبية في الشأن الخليجي، وسياسات إيران التوسعية المتربصة بدول الخليج وبذر بذور الطائفية المقيتة ودور جماعات الإسلام السياسي في التحريض والتأليب ضد الانظمة الخليجية الحاكمة".
لقد دأب زعماء دول مجلس التعاون الخليجي دوما على التأكيد على استقرار المنطقة التي خلت من الثورات في السنوات السبعين الماضية. فالخليج الذي يرفل في الازدهار الاقتصادي لم يتعرض لحركات القومية العربية والأيدلوجيات المتطرفة التي اجتاحت دولاً عربية أخرى خلال الخمسينيات والستينات. وبخلاف ثورة ظفار التي انطلقت في الجزء الجنوبي من سلطنة عمان عام 1965 واستمرت عشر سنوات، كان للمجتمعات الخليجية خصوصياتها وظروفها مما جعل تأثرها بمد القومية العربية والثورات المسلحة ضد الوجود البريطاني محدوداً([5]). كما من بين الأسباب أيضاً قلة عدد السكان وعزل المستعمر البريطاني للمنطقة، كما ساهم استمرار الأنظمة والزعامات التقليدية والدينية والإسلام المعتدل القائم على الشورى أيضاَ في الاستقرار، وكانت عمليات انتقال السلطة تجري على نحو سلس بعد الجلاء البريطاني وظلت قنوات الاتصال مفتوحة بين الحكام والعامة([6])".
إن النزاع الحالي يقوض أحلام الكثيرين، فالثروة النفطية التي تمتلكها دول الخليج جعلتها قبلة لأغلب الشعوب العربية وبقية العالم، أما احتياطياتها الضخمة من النفط والغاز فهي أمر حيوي بالنسبة لكل دول العالم الكبرى ولتأمين الطاقة في العالم في المستقبل المنظور.
ربما يكون أكبر مكسب من النزاع الراهن هو إدراك أهمية هيكلة مجلس التعاون ليوازي حجم التطور الذي حققته دوله الست وليكون بمقدوره وضع الآليات المناسبة للتصدي للأخطار التي تواجهه من الداخل.
بيد أن هيكلة المجلس تحتاج إلى وقت، كما لا يمكن ترقب حدث من السماء، وفي خضم هذا الصراع يضيع وقت ثمين، لذا فإن الأمل معقود على أهل الحل والعقد وما لديهم من رصيد الحكمة الموروثة لمداواة الجروح والندوب التي خلفها النزاع.
من المهم أن تظل دول الخليج متماسكة في وقت يخيم فيه على المنطقة شبح الازمات الاقتصادية والسياسة المطردة الاحتدام، وفي وقت لم يعد يشهد فيه العالم العربي والإسلامي ابداعات علمية منذ القرن السابع عشر، فالخط الرفيع الذي حافظت عليه هذه الدول بين موروثها الثقافي ودينها الإسلامي وتقاليدها العريقة والثورة التكنولوجية هو ما شكل طوق النجاة حتى الآن.