لكن هناك العديد من العوامل التي تجعل من نموذج “عُمان السلطان قابوس” صعب التحقّق خلال حقبة “عُمان السلطان هيثم” أوّلها الرؤية الاقتصادية والثقافية التي يتبنّاها السلطان هيثم والتي زاد من أهميتها تداعيات وباء كورونا الاقتصادية التي رافقت الشهور الأولى من تولّي السلطان الجديد للحكم وجعلها أكثر صعوبة وحَسماً، ويُرجّح أنّ تقدّم أهمية الأوضاع الصّحّيّة التي نَتَجت عن انتشار فايروس كوفيد-19 في العالم قد خَلَطت الأولويات حتى بالنسبة للسّلطنة التي شهدت أعداد منخفضة نسبياً سواء من حيث الإصابات او من الوفيات.
بدأ السلطان هيثم بإصدار جملة من المراسيم السلطانية التي قد تكون مؤشراً للملفات التي سيتم تسليط الضوء عليها خلال فترة حكمه، كما كان سريعاً في اتخاذ الإجراءات اللازمة لاحتواء فايروس كوفيد-19 من الناحيتين الاقتصادية والصحيّة، ومن المتوقع أن تتحوّل الحقبة الراهنة من التاريخ العُماني إلى منارة يتم العودة إليها لتقدير نجاح السلطان هيثم وبدايات وصوله عرش سلطنة عُمان.
أصدر السلطان هيثم عشر مراسيم سلطانية بعد توليه للحكم، ركز فيها على القطاع الثقافي وهو أمر غير مستغرب باعتبار انه كان وزيراً للثقافة لمدة عشرين عام حيث قام بعدة تعيينات طالت وزارة التراث والثقافة في تحرّك يبدو أنه يهدف لتعزيز القطاع السياحي وعكس الخبرة التي راكمها حول الجوانب الممكنة الاستثمار والتطوير. عيّن السلطان عدداً من الشخصيات المقرّبة منه والتي عَمِل معها سابقاً في مراكز قيادية ليس فقط في وزارة الثقافة بل أيضاً في مناصب ستلعب دوراً رياديّاً خلال السنوات القادمة، مثل تسليم السيد فاتك بن فهر آل سعيد مبعوثاً خاصاً للسلطان والذي كان أميناً عاماً في وزارة التراث والثقافة وهو شاعر عُماني معروف.
كما عين مستشار وزير الثقافة السيد فيصل بن حمود بن نصر البوسعيدي مستشاراً في ديوان البلاط السلطاني بالدرجة الخاصة، كذلك السيد منصور بن ماجد بن تيمور آل سعيد الذي كان مستشار وزير الثقافة في منصب مستشار خاص للسلطان بمرتبة وزير. كان واضحاً من خلال هذه التعيينات انّ السلطان هيثم يريد البدء بالعمل بشكل سريع وانه يسعى للاعتماد على شخصيات موثوقة وخبرها شخصياً خلال فترة عمله السابقة في الوزارة، وكان واضحاً أنّ العائلة الحاكمة في عُمان ستلعب دوراً أساسياً في رؤية السلطان الجديدة وأنه ينوي الاعتماد على طبقة واسعة من الداعمين الداخليين لتنفيذ ووضع خطته على سكّة النجاح.
السلطان قابوس كان زعيماً بالمعنى الحرفي والمجازي للكلمة في عُمان، فهو لم يقم ببناء الدولة الحديثة وحسب بل تولّي أيضاً معظم المناصب السّياديّة فيها، حيث كان وزيراً للخارجية والمالية والدفاع، كما كان قائداً أعلى للقوات المسلحة ورئيس مجلس إدارة البنك المركزي. بالنسبة للسلطان هيثم فلا يبدو أنه يسعى لاتخاذ نفس الاسلوب لإدارة البلاد فهو يقوم بتعيين تكنوقراط في العديد من المناصب، حيث عيّن أخوه السيد شهاب بن طارق آل سعيد في منصب نائب رئيس مجلس الوزراء لشؤون الدفاع وهو منصب لم يكن مستخدماً منذ عام 1996. ومن المتوقع ان يكون السيد شهاب حليفاً هامّاً للسلطان الجديد خلال فترة حكمه، كما انّ خبرته قائداً للبحرية السلطانية العُمانية بين 1990-2004، مؤشر على تركيز السلطان هيثم على قضية الأمن البحري، الذي بات يُعتبر أحد التحديات الرئيسية بالنسبة لدول الخليج وخطوط الطاقة العالمية في السنوات الأخيرة، ومن المتوقع ان يسعى السلطان هيثم لتعزيز القوة والتواجد العُماني في مياه الخليج كجزء من الجهد العالمي لحماية المنافذ البحرية وإمدادات النفط
التغييرات الحاصلة في السلك الدبلوماسي أيضاً ليست مستغربة فالسلطان هيثم عَمِل في وزارة الخارجية والسلك الدبلوماسي منذ عام 1982 وحتى توليه وزارة التراث والثقافة في 2002. بالتالي فهو يمتلك خبرة موازية في الشؤون الخارجية تجعل تكوينه لأجندة سياسة خارجية خاصة به مسألة مرجحة.
وتشير التعيينات الجديدة للملفات التي يرى السلطان هيثم ضرورة في تغيير اتجاهاتها أو على أقل تقدير رفع مستوى التعامل معها، حيث تم تبديل سفراء السلطنة في دولتيّ ربيعٍ عربيّ هما السودان وتونس، اللتين تعتبران أيضاً ساحات منافسة لأجندة الإخوان المسلمين. تغيير السفير في إيران والكويت قد يشير لعدّة أسباب، ترتبط بتمكين سياسة الوساطة العُمانية على أسس تعاون مختلفة، خصوصاً في الوقت الذي تبرز فيه الكويت باعتبارها أهم وسيط لحلّ الازمة القطرية وتبرز إيران في دائرة المستفيدين منها، كلها تفاصيل تحتاج لسياسات وتكتيكات تتناسب مع المقاربة السلطانية الجديدة وبالتالي شخصيات تتفهم زاوية الرؤية التي يريد تجسيدها.
تعيين عبد الله بن ناصر بن مسلم الرحبي الذي كان مندوب السلطنة الدائم في جنيف سفيراً لعُمان في دولة الإمارات، مؤشر على تقاطع رؤية السلطان هيثم مع رؤية دولة الامارات المتعلقة بتعزيز التسامح بين الأديان، وتقديم الصورة الصحيحة للإسلام من خلال مبادرات ومشاريع عابرة للأديان والحدود، وهو ملف ناقش واشتغل فيه السفير عبد الله بن ناصر سابقاً خلال عمله في جنيف، بالتالي من المتوقع ان تشهد الدولتان مبادرات جديدة مشتركة في هذا المجال قد تنعكس أيضاً على جوانب أخرى للعلاقة بين الامارات والسلطنة.
أما لتعيين تركي بن محمود بن علي البوسعيدي سفيراً لعُمان في سوريا، فهو لم يكن مستغرباً. فقد تم استلام أوراق اعتماد السفير السوري بسام الخطيب في السلطنة قبل هذه الخطوة، لكن قد يكون تعيين شخصية من العائلة هو المستغرب لأنه يعكس أهمية لهذا الملف بالنسبة لعُمان، مما قد يشير لبروز دور وساطة عُماني جديد في سوريا، وسعي للتعاون مع روسيا أيضاً في هذا الإطار.
إنّ نجاح دبلوماسي عُماني في إنهاء الوضع المُزمن الراهن قد يقود لاكتساب عُمان عقود مُربحة في إعادة الإعمار ما بعد الحرب، وهو هدف تسعى له العديد من الدول الإقليمية والدولية. أما التغييرات المتزامنة في البعثات الدبلوماسية الى كوريا الجنوبية وفيتنام وتايلند والصين الشعبية وكازاخستان، فعلى الأرجح أنها جزء من إعادة هيكلة مُجمل العلاقات مع الصين سواء بما يتعلق بطريق الحرير أو بما يتعلق بالدور الصيني في المحيط الأطلسي والذي يتسبب بتوتر مع الولايات المتحدة الامريكية، حيث تعتبر الرؤية الاقتصادية على رأس أولويات السلطان هيثم رغم العقبات التي مثلها وباء كورونا، وهو ما يفسّر أيضاً تغيير السفراء في أهم اقتصادين أوروبيين وهما ألمانيا وهولندا.
لا يعني كل ذلك أنّ السلطان هيثم يريد أن يحيد عن الخطوط العريضة التي أوجدها السلطان قابوس في السياسة الخارجية العُمانية والتي تعتمد على التوسّط في إنهاء النزعات والبُعد عن التورّط بالخلافات التي تزخر بها المنطقة، إنما تعني أنّ السلطان هيثم يريد التوصل لصيغة مناسبة لمواجهة التحديات الجديدة التي تواجه المنطقة والعالم بكادر موثوق وكفؤ، وانه يمتلك رؤية تحتاج لتنفيذ مشاريع متعددة المسارات خصوصاً على الصعيد الداخلي ولذلك هو يحتاج لندب المهمّات وتدوير مناصب المسؤولين بشكل سيكون أوسع من سلفه.
حافظ السلطان هيثم على الودّيّة التي سادت العلاقة مع إيران خلال حكم السلطان قابوس وسَمح باستمرار الرحلات لنقل الإيرانيين القادمين من دول خليجية أخرى إلى مسقط ومن ثم إلى إيران بعد أن تم إلغاء رحلاتهم في بداية أزمة كورونا، وهي بادرة استحق عليها شكر المبعوث الإيراني لسلطنة حجة الإسلام محمد رضا نوري شرهودي. ومن المتوقع ان يسعى السلطان هيثم للحفاظ على دور الوساطة العُمانية المعهود في إطار العلاقات الإيرانية-الأمريكية، والإيرانية-الخليجية، فالدور العُماني الوسيط ثمين جداً بالنسبة لجميع الأطراف بما فيها دول الخليج، باعتبار أن عُمان هي القناة الموثوقة التي تم الاعتماد عليها لعقود خصوصاً في فترات التصعيد.
منافس جديد قد يُعيق استمرار دور الوساطة العُماني هو قطر التي بات يجمعها علاقات اقتصادية وسياسية متنامية مع الجمهورية الإسلامية الايرانية، وقد برزت مؤشرات تقول أنّ القيادة القطرية حاولت التوسط مراراً بين إيران والولايات المتحدة الامريكية خلال فترة التصعيد بين البلدين. علاقات قطر مع الدول الأوروبية ايضاً قد تسمح لها بلعب مثل هذا الدور بعد وفاة السلطان قابوس، سابقاً لم يكن هناك دول أخرى في المنطقة قادرة على التوسط مع إيران بحكم محدودية العلاقات ومستوى الثقة. ورغم أنّ الكويت طرف محتمل دائماً لكن الدور الذي لعبته عُمان في فتح قناة التفاوض على الاتفاق النووي حوّلها الى عرّاب الوساطة الإيرانية بالنسبة لعديد من دول العالم. بالنسبة لقطر فإن علاقاتها المتراجعة مع دول المقاطعة العربية لا تسمح لها بتوسيع نطاق قوتها الدبلوماسية ضمن وساطة خليجية مع إيران، وهو دور لا تزال سلطنة عُمان هي الأجدر بلعبه وهي نقطة قوة يمتلكها السلطان هيثم وسيكون قادراً على التحرّك ضمنها عند اللّزوم.
بدلاً من البدء بتنفيذ الرؤية الاقتصادية 2040، كان على السلطان هيثم التعامل السريع مع المتطلبات التي فرضها فايروس كورونا، وتم تشكيل لجنة متخصصة لمواجهة الفايروس، وعملت وزارة الإعلام ووزارة الصحة على التقاط الشائعات المتعلقة بنطاق انتشار الوباء وبؤره ونفيها ومنع أي حالة من الهلع بين السكان. كما قامت باتخاذ عديد من الإجراءات المتعلقة بتوفير الأدوية والغذاء ونشر توضيح يومي حول وضع الوباء في السلطنة. واعتمد السلطان قانون جهاز الأمن الداخلي وأجرى تعديلات على قانون الدفاع المدني وتشكيل “اللجنة الوطنية للدفاع الوطني” وهي أجهزة تلعب دوراً مهمّاً مع الشرطة السلطانية وقوات السلطان المسلحة في تنفيذ القرارات الصادرة عن السلطان وتوصيات وزارة الصحة في إطار احتواء الفايروس، خصوصاً مع بروز الحاجة لإغلاق المحلات التجارية في محافظة مسقط منذ 23 مارس الماضي، وإيقاف وسائل النقل العامة، وعزل بؤر انتشار المرض.
لا شكّ أنّ الحفاظ على صحة المواطنين في أي دولة هو قضية أمنية وليست فقط طبيّة، لأنّ لها انعكاسات مباشرة على استقرار السكّان النفسي وسلوكهم الاجتماعي والسياسي، وعلى ثقتهم بقياداتهم، ما يجعل الإجراءات الصارمة التي تم اتخذها في السلطنة منطقية، وهي تعبّر عن ترابط الأمن الصحيّ مع الأمن الاجتماعي وانعكاس الاثنين عملياً على الرؤية السياسية للدولة والتي تعتبر في حالة السلطان هيثم سياسة قيد التشكّل، هذا التشكّل الذي يحصل في حقبة من أصعب الحقب التي تمرّ على الإنسان في العصر الحديث.
بالإضافة لمرض كورونا، واجه السلطان هيثم تحدي الانخفاض الشديد في أسعار النفط والذي برز بعد انفراط الاتفاق بين منظمة أوبك وروسيا، وتراجع الطلب العالمي بسبب انتشار الوباء. أدى هذا التراجع لخسائر جسيمة طالت جميع مصدّري النفط. بالنسبة لعُمان فهي تعتمد في ميزانيتها على سعر 58 دولار للبرميل بينما تراجعت قيمة النفط العُماني في 27 ابريل لأقل من 20 دولار للبرميل، قبل التوصل لاتفاق جديد لأوبك+ بمساهمة من الولايات المتحدة الأمريكية في 12 ابريل. لقد أدى تعدّد التحديات الاقتصادية لاتخاذ قرارات مثل خفض الإنفاق الحكومي الذي اعتبره وزير المالية إجراءً بنتائج مؤقتة وهذا يعني أنّ عُمان ستحتاج لاتخاذ إجراءات أشدّ قسوة. حيث طلب الوزير سابقاً من الشركات المملوكة من الحكومة خفض نفقاتها التشغيلية والاستثمارية بنسبة 10٪ ووجه بعدم البدء بمشاريع جديدة هذا العام، مع العلم انه تم تخفيض الميزانية المخصصة للهيئات الحكومية في مارس بنسبة 5٪ والذي تضمّن الاعتمادات العسكرية والأمنية. لكن لا يزال الوضع الاقتصادي يواجه تحدياً كبيراً.
من المعروف أنّ الصعوبات الاقتصادية في عُمان ليست جديدة، وقد تم اتخاذ قرارات سابقة للتعاطي معها في عهد السلطان قابوس، لكنها بقيت أزمة مزمنة لم تجد جلّاً نهائياً أو انهياراً كلّيّاً. ترافق ظهور وباء كورونا مع وصول سلطان جديد برؤية جديدة قد يؤدي لتغيير المشهد الاقتصادي في عُمان، الشدائد المترافقة مع العزم والطموح والحاجة تؤدي عادةً لنتائج غير متوقعة. على سبيل المثال، نجد أنّ مختلف الفئات المجتمعية وقطاع الأعمال بادر للانخراط في دعم الجهد الحكومي لمواجهة فايروس كورونا وتداعياته الاقتصادية، مثل إعلان بنك صحار لعملائه من المؤسسات الصغيرة والمتوسطة عن تنازله عن الفوائد والرسوم لستة أشهر القادمة وتأجيل أقساط التمويل بدءاً من ابريل 2020. ايضاً، إقبال العُمانيين على التطوع في مجال الإغاثة والايواء، وتبرّع رجال الاعمال بالملايين للصندوق الوقفي لدعم الخدمات الصحية للتصدي لجائحة كورونا، وغيرها من التحركات الاجتماعية على مستوى القطاعات المليئة مالياً وعلى مستوى المواطنين العاديين، الأمر الذي يمكن قراءته على أنه ارتفاع في مستوى اللُّحمة الوطنية العُمانية خلال فترة الأزمة ودعم واضح لقرارات السلطان وجهوده لتجاوزها.
قد لا يسجّل التاريخ الأعوام الأولى لحكم السلطان هيثم على أنها فترة ازدهار أو منح سلطانية، وهو المسار الأسهل الذي يسمح لأي زعيم جديد بتعزيز حكمه وتجاوز الفترة الأولى التي تحظى عادةً بتركيز وبتسليط أضواء وربما بمحاسبة. عوضاً عن ذلك سيُسجَّل السلطان هيثم باعتباره القائد الذي واجه وباء كورونا، وتجاوزه بأمان مع شعبه إلى الضفة الأخرى، صحيح أنّ القدر حَمَل معه هذه التحديات القاسية للسلطان الجديد، لكن هذه التحديات قد تكون هي ما يحتاجه فعلاً لإثبات رؤيته وقدرته القيادية، ولتعزيز موقعه والداً جديداً لعُمان ما بعد كورونا.