الوضع الراهن لأسواق النفط: السيناريو التقليدي
شهدت أسعار النفط انخفاضا ملحوظا منذ شهر يونيو 2014م، إذ انخفض سعر برميل النفط الخام إلى ما دون 50 دولارًا مع بداية شهر كانون الثاني/ يناير 2015، ثم واصلت انخفاضها الى أن وصلت الى حوالي 30 دولار/برميل في شهر يناير من العام الحالي. إذن ما هي العوامل التي تؤثر في أسواق النفط العالمية، وبالتالي في أسعاره بالإضافة الى عمالي العرض والطلب؟
أحد العوامل التي تؤثّر في سعر النفط ما يمكن تسميته بالعوامل "السلوكية - النفسية"، وهي مجموعة عوامل تتعلق بسلوك المنتجين والمستهلكين والمضاربين، وقراراتهم بخصوص الإنتاج والبيع والشراء لعقود النفط، آنية أم آجلة، في السوق العالمية
فقد يستمر بعض المنتجين أحيانًا في الإنتاج على الرغم من انخفاض السعر، رغبةً منهم في الحفاظ على حصصهم في السوق. كما قد يتعمّد بعض المنتجين – أحيانًا - إلى تخفيض أسعار نفطهم مقابل منافسيهم الآخرين، في خضم توافر معروض كبير في السوق العالمي، لإبقاء سيطرتهم على بعض الأسواق، ضمن ما يمكن وصفه بحرب الأسعار
أما بالنسبة إلى المستهلكين للنفط لأغراض واستخدامات متعددة، فإنّ قراراتهم بالشراء تتأثر بحالة السعر الراهنة وبتوقعاتهم المستقبلية له. ففي حالة استمرار انخفاض السعر لفترة معينة، سيعمدون إلى تخفيض كميات الشراء الفوري، وقد يمتنعون تمامًا عن الشراء الآجل توقعًا منهم لانخفاض آخر في الأسعار، مما يخفّض تكلفتهم. وهذا يعني في نهاية المطاف أنّ مستوى الطلب الكلي العالمي على النفط سينخفض، الأمر الذي من شأنه أن يوجد ضغوطًا باتجاه خفض السعر بغض النظر عن حجم العرض العالمي؛ وفي الحالة المعاكسة، عندما تسود حالة من الاعتقاد أو التوقع بارتفاع الأسعار، فإنّ المستهلكين سيسارعون إلى شراء كميات أكبر (عقود شراء فورية أو آجلة) تحسّبًا لارتفاع الأسعار وأثره في زيادة تكلفة الحصول على النفط.
أما بالنسبة إلى المضاربين والمستثمرين في الأسواق المالية، فهم يتّخذون قرارات البيع والشراء لعقود النفط الفورية أو الآجلة، بهدف تحقيق أكبر قدر من الأرباح نتيجة الفروق بين أسعار البيع والشراء
وتؤثّر العوامل الجيوسياسية في أسعار النفط أيضاً من خلال تأثيرها في الإنتاج والمعروض العالمي، بسبب الكوارث الطبيعية أوالحروب أو النزاعات في أماكن الإنتاج أو طرق النقل والتوزيع أو أماكن الاستهلاك. كما تتأثر الأسعار بالاستقرار السياسي في الدول المنتجة للنفط وبعض الدول الرئيسة المستهلكة له، بحيث إنّ حدوث أي نوع من القلاقل السياسية أو الكوارث الطبيعية من شأنه أن يؤثّر في مستويات الأسعار العالمية للنفط صعودًا.
أهم العوامل الجديدة المؤثرة في أسعار النفط
أعلنت إدارة معلومات الطاقة الأمريكية في تقرير لها صدر بتاريخ 10/6/2013م بأن بعض التقديرات الأولية قد أشارت الى إمكانية زيادة الاحتياطيات العالمية من النفط والغاز بنسبة 11% بالنسبة للأول وبنسبة 47% بالنسبة للثاني من تلك المكتشفة من مصادر الصخور الحجرية (Shale Oil)
أشار ذلك التقرير أن الدراسات الأولية لموارد النفط الصخري قد قدرت حجم ترسباته بما يعادل 345 بليون برميل. وإذا ما أضيفت هذه الكمية الى موارد النفط العالمية الحالية فإن حجمها سوف يصل الى 3,357
بليون برميل
كما أشار تقرير إدارة معلومات الطاقة الأمريكية الى أن التقديرات الأولية قد أشارت الى أن الغاز المستخرج من الصخور سوف يضيف ما يعادل 7,299 ترليون متر مكعب من الغاز الطبيعي، أي ما يعادل 32% من حجم الغاز الطبيعي المتوفر عالميا في الوقت الراهن
تعد هذه اول محاولة تجرى لدراسة وتحليل أثر الاكتشافات المذهلة لموارد النفط والغاز المستخرجان من الصخور الحجرية، والتي تمت مؤخرا في الولايات المتحدة الأمريكية، باعتبار أنها قد غيرت وجه صناعتهما داخل أمريكا نفسها، وكذلك إمكانية قياس أثارها على بقية بلدان العالم
أشار التقرير الى أن هنالك ستة بلدان وهي الصين والأرجنتين والجزائر وأمريكا وكندا والمكسيك تمتلك في الوقت الراهن حوالي 60% من الموارد العالمية من غاز الصخور الحجرية
كما أشار نفس التقرير بأن هناك خمسة بلدان وهي روسيا وأمريكا والصين والأرجنتين وليبيا تمتلك حوالي 63% من الموارد العالمية من نفط الصخور الحجرية
لم ترد أية إشارة في التقرير الى الجدوى الاقتصادية لاستخراج نفط وغاز الصخور الحجرية في البلدان المشار إليها حيث أنه من المعروف أن أمريكا وكندا هما البلدان الوحيدان اللذان ينتجانها بكميات تجارية في الوقت الراهن
نتيجة لهذه الاكتشافات فإن الجهات المختصة أعلنت بأن أمريكا ستكون أكبر منتج للنفط بحلول عام 2020 وأكبر منتج للغاز خلال عام 2015 وحسب هذا الإعلان فإنها لن تكون بحاجة الى نفط الشرق الأوسط بعد هذا التاريخ
وقد أكدت وكالة الطاقة الدولية ذلك حيث أعلنت رسميا أن الولايات المتحدة ستتجاوز السعودية وروسيا لتصبح أكبر منتج للنفط بحلول عام 2017، وستفوق صادرات أمريكا الشمالية من النفط وارداتها بحلول 2030، وستحقق أمريكا الاكتفاء الذاتي من الطاقة بحلول عام 2035 تقريبا.
وترجح وكالة الطاقة الأمريكية أن يرتفع معدل إنتاجها الى نحو 11.4 مليون برميل يوميا، في الوقت الذي تبلغ فيه الطاقة الإنتاجية الحالية للسعودية نحو 11.5 والطاقة الإنتاجية لروسيا نحو 10.3 مليون برميل يوميا، بينما يقدر خبراء سيتي بنك أن يصل الإنتاج الأمريكي الى نحو 13-15 مليون برميل يوميا بحلول عام 2020
لكن التقنية الحديثة التي ابتكرتها شركات النفط الامريكية قد زادت من معدلات إنتاج النفط الصخري بصورة مجزية مما مكنها من اختصار الفترة الزمنية التي حددتها لاكتفائها الذاتي مما حدى بها لإلغاء قانون كان قد أصدره الكونغرس في عام 1975 حظر بموجبه تصدير النفط وبذلك فقد أصبحت الولايات المتحدة أحد الدول المصدرة للنفط في الوقت الراهن.
أثر رفع العقوبات الاقتصادية عن إيران على أسواق النفط
الوضع الراهن لأسواق النفط: سيناريو مغاير
هناك حقيقة غالبا ما تكون مغيبة عن قصد عند تحليل الأسباب المؤثرة في تحديد أسعر النفط وهي أن المنتجات النفطية تكاد تكون السلعة الوحيدة التي يتم تحديد سعرها بواسطة المستهلك وليس المنتج، كبقية السلع الاستهلاكية والمعمرة الأخرى كالملابس والسيارات وغيرها
لذلك فإن تحديد أسعار النفط لا تتم وفقا لعوامل العرض والطلب فقط، وإنما يتم استغلال تلك العوامل، في الغالب الأعم، لتحديد أسعاره وفقا للمصالح العليا للدول التي تتحكم في مفاصل الاقتصاد العالمي.
لذلك فإن النفط قد ُيستخدم أحيانًا كأداة لتحقيق أهداف وغايات سياسية، تكون في معظم الحالات غير معلنة، وقد تُغلف بغطاء اقتصادي أو اجتماعي. فمثلًا، قد تعمد بعض القوى المؤثّرة في سوق النفط العالمي، وبالأخص الولايات المتحدة الأمريكية، إلى تغيير مسار الأسعار صعودًا أو هبوطًا بهدف تشكيل ضغوط اقتصادية على دول أخرى، تتباين معها في المواقف السياسية عمومًا، أو فيما يخص قضايا معينة، بحيث يؤدي هذا التغيّر في الأسعار إلى صعوبات اقتصادية في تلك الدول، قد ترغمها على تغيير سياساتها أو تعديلها بالحد الأدنى
إن الهبوط المفاجئ في أسعار النفط خلال الفترة الماضية، وبالأسلوب الذى تم به لم يكن فقط نسبة لانخفاض الطلب عليه، على الرغم من تباطؤ النمو في اقتصادات البلدان الصناعية، وبالأخص في الاقتصاد الصيني، ولكن انخفاضه تم بتخطيط مسبق من أمريكا ولأسباب جيوسياسية لا تمت بصورة مباشرة الى عاملي العرض والطلب، مما سيكون له عواقب عالمية سالبة، خصوصاً على البلدان المنتجة له
الدليل على أن أسعار النفط لم تتحدد وفقا لعاملي العرض و الطلب أنه عندما بلغ فائض المعروض من النفط عن الطلب ذروته في الربع الثاني من عام 2014 (1.2 مليون برميل يوميًا بالمتوسط)، كان السعر في أعلى مستوياته (103.35 دولارًا للبرميل)، على الرغم من أنّ زيادة الطلب قياسًا بالربع الأول كانت محدودة ، في حين أنه عندما تقلص حجم متوسط الفائض اليومي إلى 310 ألف برميل في الربع الرابع من عام 2014، نتيجة انخفاض العرض العالمي واستمرار زيادة الطلب، تناقص السعر إلى 73.16 دولارًا للبرميل، علمًا أنّه وفق النظرية الاقتصادية فإنّ زيادة الطلب على سلعة ما مع ثبات أو انخفاض عرضها، يتوقع أن يصاحبه ارتفاع في الأسعار، عكس ما حدث لأسعار النفط في الربع الرابع من عام 2014.
أنّ تغيرات سعر النفط خلال العام 2014، والتي لم تتحدد وفقا للعلاقة بين العرض والطلب عليه في السوق العالمية، إذ أنّه في الأرباع الثلاثة الأولى من العام، عندما كانت كميات العرض تفوق كميات الطلب، حقق النفط أسعارًا مرتفعة للغاية، وفي الربع الرابع منه وعلى الرغم من انخفاض حجم فائض العرض وزيادة مستويات الطلب، فإنّ السعر قد انخفض بنسبة 25% قياسًا بمستواه في الربع الثالث يقف دليلا واضحا على صحة زعمنا بأن أسعار النفط يمكن استغلالها كسلاح لتحقيق أهداف سياسية تخدم المصالح العليا لبعض الدول.
فقد سبق أن لجأت أمريكا وحلفائها الى هذا السلاح حينما كانت تخوض حربا على الاتحاد السوفيتي السابق في أفغانستان مما أدى الى انهياره في نهاية المطاف
كما أن أمريكا وحلفائها استغلوا هذا السلاح مؤخرا لأسباب سياسية أيضا ضد أعدائهم في أمريكا اللاتينية، وبالأخص فنزويلا، مما نتج عنه هزيمة الحزب الحاكم في الانتخابات البرلمانية التي جرت في ديسمبر الماضي ومكن لقوى المعارضة من السيطرة على البرلمان تمهيدا لسيطرتها على رئاسة البلاد في المستقبل.
وقد استغلت أمريكا وحلفائها هذا السلاح في صراعها السياسي مع روسيا والذى اتخذ شكل حربا بالوكالة في أوكرانيا لحماية مصالحها في شرق أوربا وكذلك الحرب التي تدور حاليا في سوريا لحماية مصالحها في منطقة الشرق الأوسط. يصبح الهدف غير المعلن من سعي أمريكا الى خفض أسعار النفض هو إضعاف الاقتصاد الروسي وبالتالي زعزعة استقرارها السياسي، وإن تم ذلك بصبغة اقتصادية، بهدف تغيير سياساتها في أوكرانيا ومنطقة الشرق الأوسط.
مصادر النفط البديلة: السيناريو الأسوأ
إن إستراتيجية أمريكا على المدى البعيد تتمثل في أن تكون هي بمثابة البديل للواردات الصينية واليابانية من النفط بدلا من دول الخليج العربية وإيران.
أصبح من المعروف أن الدول الغربية، وبالأخص الولايات المتحدة الأمريكية، لا تبني إستراتجياتها، ولا تعتمد سياساتها، وبالأخص الخارجية منه، الا بعد إجراء دراسات دقيقة ومتعمقة حول الموضوع ذات الصلة. ومن المعروف كذلك أن أمريكا دائما ما تبني إستراتيجياتها على المدى البعيد الذي قد يمتد لخمسين عاما في بعض الأحيان.
أعلنت الولايات المتحدة في وقت سابق بأنها ستعيد رسم خارطة المنطقة باستراتيجية أطلقت عليها في وقتها «الشرق الأوسط الجديد»، وفقا لفلسفتها المسماة بالفوضى الخلاقة، وهي تعني فيما تعني إشعال الحروب داخل دول المنطقة وكذلك فيما بينها، مرتكزة في ذلك على جماعات الإسلام السياسي، وبالأخص جماعة الإخوان المسلمين.
إن الحرب التي أعلنتها أمريكا وحلفائها على ما أصبح يعرف ب "الدولة الإسلامية"، أو تنظيم "داعش"، ليس إستثناءا لهذه القاعدة. وقد أعلنت أمريكا الحرب مؤخرا على هذا التنظيم بعد أن خرج عن نطاق سيطرتها، كما تنظيم القاعدة تماما، وأصبح مهددا رئيسيا لمصالحها في المنطقة.
إن استعجال الرئيس الأمريكي في اتخاذ قرار الحرب خارج إطار مؤسسات الأمم المتحدة يقف دليلا صارخا على أنه لا يود أن يواجه بأي اعتراض من قبلها، وبالأخص إذا ما قررت روسيا استعمال حق النقض الذي يمكن أن يقود الى فشل الاستراتيجية الأمريكية برمتها. لذلك دعا الرئيس أوباما الى تكوين "حلف الراغبين"، خارج نطاق الأمم المتحدة، والذي يذكرنا بتجربة سلفه بوش في حربه على العراق؟
من المعروف أن اقتصادات الصين واليابان تعتمدان اعتمادا يكاد يكون شبه كاملا على نفط دول الخليج وإيران. لذلك فإن أي تهديد لوقف صادرات تلك الدول إليهما، أو وقفه تماما، سيكون له آثارا كارثية على اقتصاد البلدين. إن بترول دول الخليج وإيران هو بمثابة الرئة التي يتنفس من خلالها اقتصاد البلدين. لذلك فإن وقف الأوكسجين عنهما سيؤدى بالضرورة الى إلحاق أكبر الأضرار بهما في نهاية الأمر.
يعتبر التهديد لمصادر النفط في المنطقة، أو سبل تصديره الى الصين واليابان، أحد السناريوهات المحتملة للحروب الاقليمية وبالذات تلك المعلنة على تنظيم «داعش» في العراق وسوريا. إن استمرار الحرب على هذا التنظيم لفترة طويلة ربما يؤدي الى انتقامه من الدول المشاركة في الحرب عليه، ويأتي في طليعتها بالطبع الولايات المتحدة الأمريكية، من خلال ضرب مصالحها في جميع أنحاء العالم، وبالأخص في منطقة الخليج العربي، شريان الحياة بالنسبة لصادرات النفط العالمية.
إن أي تهديد لصادرات النفط من منطقة الخليج العربي وإيران الى الصين واليابان ودول أوربا، أو وقفه تماما، سوف يجعل من أمريكا هي المصدر الرئيسي للنفط بالنسبة لتلك الدول، وبالأخص إذا ما عرفنا مدى التطور التقني في مجال النفط والغاز الذي سيمكن أمريكا على المدى القصير لتصبح أكبر دولة منتجة ومصدرة لهما على مستوى العالم.
إن تحقيق هذا السيناريو سوف يمكن لأمريكا ليس السيطرة فقط على اقتصادي الصين واليابان فقط، وإنما السيطرة كذلك على اقتصادات حلفائها من البلدان الأوربية، وبالتالي إعادة سيطرتها على اقتصاد العالم لفترة طويلة قادمة من الزمن، وهو يشكل الهدف الحقيقي لحروبها الاقليمية وبالأخص حربها على تنظيم "داعش".
الآثار المترتبة على اقتصاد الدولة
كذلك سيمتد الأثر ليشمل استثمارات الدولة الخارجية، بما في ذلك صناديقها السيادية، ويحد من نشاطها نظرا لتقلص رأسمالها المتاح. وسيقلص كذلك من استثماراتها الداخلية نظرا لانخفاض عائدات الدولة المالية، وبالتالي انخفاض إيراداتها السنوية، وربما حدوث عجز كبير في موازنتها السنوية، مما سيلحق ضررا بينا بالاستثمارات وكذلك بالصرف الحكومي على القطاعات الحيوية كقطاعي التعليم والصحة.
كذلك فإن انخفاض العوائد المالية للدولة سيؤثر سلبا على حجم موازنتها السنوية، وسيؤثر بصورة مباشرة على المنصرفات الحكومية، مما سيلحق ضررا بالغا بجميع القطاعات والأنشطة الاقتصادية، وبالأخص قطاع البنى التحتية، التي تعتبر الدولة أحد روادها من حيث الجودة ورقي المستوى، وتتمتع بسمعة عالمية عالية لا يرقى اليها الشك في هذا المجال، مما ساعد كثيرا في جذب الاستثمار الأجنبي، ونمو قطاع السياحة على وجه الخصوص.
إن أي انخفاض في الدخل المحلي الإجمالي سيؤدي مباشرة الى انخفاض معدل دخل الفرد من ذلك الدخل، والذي سيؤدي بالضرورة الى انخفاض الدخل المتاح للفرد والأسرة، مما سيكون له آثار سالبة على حجم الطلب الفعال داخل الاقتصاد، وبالتالي على حجم الاستهلاك الخاص، مما سينتج عنه تدهور نسبي في مستوى المعيشة لسكان الدولة، بالإضافة الى الضرر الذي سيلحق بالصناعات المحلية التي تنتج بعض السلع الاستهلاكية.
إن تقليص الصرف الحكومي على القطاعات الحيوية والخدمية سوف ينعكس بصورة مباشرة على المواطنين، وسيخفض من مستوى معيشتهم المرتفع والمميز، وربما يقود الى تذمر في أوساطهم جراء ذلك الانخفاض غير المعهود.
ما العمل؟ إمارات ما بعد النفط
إنه لمن حسن الطالع أن القيادة الرشيدة قد أجابت على هذا السؤال المفصلي الهام أثناء الخلوة الوزارية التي عقدت في الثلاثين من شهر يناير المنصرم والذي تمثل في إعداد ’ استراتيجية إمارات ما بعد النفط ‘والتي سيتم إعلانها لاحقا.
إن هذه الاستراتيجية تعتبر استثنائية بكل المقاييس لأنها تستقرئ واقع اقتصاد ومجتمع الامارات بعد نضوب الموارد النفطية وبالتالي فهي تعتبر امتداد ونتاج طبيعي لاستراتيجية تنويع مصادر الدخل والتنويع الاقتصادي بعيدا عن قطاع النفط والتي طبقتها القيادة الرشيدة منذ عقود خلت وقد جاءت نتائجها إيجابية بتخفيضها مساهمة قطاع النفط في الناتج المحلي الاجمالي الى حوالي 30% فقط في وقتنا الراهن.
إن نموذج دولة الامارات قد أصبح مصدر إلهام للعديد من دول المنطقة باعتبار أن الدولة قد أصبحت مرجعية موثوق بها في السعي الحثيث نحو تحقيق التنمية المستدامة بعيدا عن قطاع النفط مستصحبة معها رفع المستوى المعيشي بالنسبة للمواطن.
إن نجاح نموذج الدولة قد ارتكز على المحاور التالية:
الشراكة الاستراتيجية والذكية مع القطاع الخاص والتي توجت أخيرا بإعلان مجموعة من رجال الأعمال الاماراتيين عن مبادرة «صندوق الوطن» التي ستقوم بتنفيذ العديد من المشاريع، تحت إشراف شركة «أبو ظبي للاستثمار»، والتي ستخدم الاقتصاد الوطني والمواطن بصفة أساسية.
الاستثمار في قطاع البنية التحتية- طرق، اتصالات، مياه، كهرباء ...الخ- بما يضاهي أرقى المستويات العالمية.
الاستثمار في قطاعي الصحة والتعليم باعتبار أن الموارد البشرية المؤهلة والمدربة تدريبا جيدا وفقا لأعلى المعايير العالمية تعتبر شرطا لازما لتحقيق واستمرار التنمية المستدامة وأن الكوادر المواطنة هي رأس المال الحقيقي الذي تستند عليه أي عملية تنموية.
لقد تبنت الدولة رسميا استراتيجية الابتكار في جميع القطاعات باعتبارها استراتيجية استشراف اقتصاد ومجتمع المعرفة في امارات القرن الواحد والعشرين.
إن نجاح هذا التوجه وهذه الاستراتيجية قد أكدته جميع تقارير التنافسية العالمية والتي تصدر من المؤسسات العالمية ذات الصلة والموثوق بها كالمنتدى الاقتصادي العالمي والمعهد العالمي للتنمية الادارية، الكائن بمدينة لوزان السويسرية، والتي أكدت تصدر الامارات لمعظم معايير التنافسية على المستويين الاقليمي والعالمي.
استراتيجية استثنائية...سياسات استثنائية
بما إن هذه الاستراتيجية تعتبر استثنائية فإن تحقيق أهدافها يتطلب تطبيق سياسات استثنائية كذلك. إن أحد أكبر التحديات التي ستواجه الحكومة الرشيدة خلال مرحلة ما بعد النفط هي تأمين مصادر دخل ثابتة ومستقرة بالنسبة لإيرادات الحكومة السنوية بما يضمن تنفيذ أهداف تلك الاستراتيجية وبلوغ غاياتها المتمثلة في تحقيق أعلى مستوى من المعيشة للمواطن وكذلك تحقيق السعادة له وفى أرقى مستوياتها.
يشكل النفط في الوقت الراهن، كما أشرنا الى ذلك سابقا، حوالي 75% من الايرادات السنوية لموازنة الحكومة، وبالتالي يصبح السؤال الذي يطرح نفسه هو: ما هي المصادر البديلة التي ستلجأ لها الحكومة لتغطية ما ستفقده من عائدات النفط في سنوات ما بعد النفط؟
تتمثل أهم تلك المصادر حاليا في عائد الاستثمارات الحكومية داخليا وخارجيا وفى مختلف القطاعات بالإضافة الى الرسوم التي تتقاضاها الجهات الحكومية نظير الخدمات التي تقدمها للشركات والمؤسسات والأفراد.
إن السياسات الاستثنائية التي يتوجب تطبيقها حتى يمكن تأمين مصادر للدخل تضمن استمرارية دولة الرفاه والسعادة تتمثل في فرض الضرائب المباشرة وهي تعتبر استثنائية لأنه لا توجد دولة من دول الخليج تقوم بتطبيقها في الوقت الراهن.
إن عدم فرض الضرائب من قبل الحكومة في الماضي كان له ما يبرره حيث أن الحكومة كانت تسعى لجذب المستثمرين حينما كانت مسيرتها التنموية في بداياتها الأولى، وبالتالي كان جذب الاستثمار، داخليا وخارجيا، يشكل أحد تحدياتها وشروطها الهامة.
لكن استراتيجية مرحلة امارات ما بعد النفط تتطلب إعادة النظر في هذه السياسة، وأهمية فرض الضرائب على دخول الأفراد وأرباح الشركات، وليس الاكتفاء فقط بضريبة القيمة المضافة، إذا أردنا ضمان الاستمرار في مسيرة التنمية المستدامة وتحقيق استقرار الرفاهية والسعادة بالنسبة للمواطن بنفس مستوياتها الراهنة والارتقاء بها مع مرور الزمن.
تتطلب سياسة فرض الضرائب المباشرة وغير المباشرة إجراء دراسات متأنية ومعمقة وشاملة بحيث تتناول جميع جوانبها ومختلف السيناريوهات المتوقعة جراء تطبيقها، السلبية والإيجابية منها، قبل اتخاذ القرار النهائي بشأنها.
إن مقومات جذب الاستثمارات الناجحة والموارد البشرية عالية التأهيل قد أصبحت متوافرة في الوقت الراهن بحيث لن يصبح الإعفاء الضريبي عاملا ذو أهمية تذكر في جذبها مستقبلا. بمعنى آخر أن المستثمر الأجنبي سوف يفضل الاستثمار في دولة الامارات دون غيرها من دول المنطقة، وكذلك سوف تأتى إليها تلك الكوادر، نظرا لما تتمتع بها من مزايا، كالبنى التحتية وأنظمة الاتصالات المتطورة