لا يعد الاعتراف الغربي بدولة فلسطين خطوة رمزية أو مناورة دبلوماسية، بل حدثًا استراتيجيًا يُعيد خلط الأوراق في مسار الصراع العربي -الإسرائيلي. فبعد عقود من الاكتفاء بترديد شعار "حل الدولتين" دون ترجمة عملية، جاءت موجة الاعترافات الأخيرة من بريطانيا وكندا وأستراليا والبرتغال، بعد إسبانيا وأيرلندا والنرويج وسلوفينيا، لتكشف عن تصدّع عميق في جدار الدعم الغربي التقليدي لإسرائيل، وتفتح الباب أمام مرحلة جديدة عنوانها الضغط السياسي والدبلوماسي عبر شرعنة الدولة الفلسطينية.
لم يكن هذا التحوّل اعتباطياً، بل جاء نتيجة مزيج معقد من العوامل. فمن ناحية، لعبت مشاهد الحرب في غزة وما ولّدته من موجات غضب وتعاطف شعبي دوراً حاسماً في دفع البرلمانات الأوروبية لممارسة ضغط غير مسبوق على حكوماتهم. ومن ناحية أخرى، سعت بعض العواصم الأوروبية إلى التحرر من الهيمنة الأمريكية، وصياغة سياسة خارجية أكثر استقلالاً وجرأة في التعاطي مع الصراع. أما البعد الثالث فهو قانوني وأخلاقي، يقوم على إدراك متنامٍ بأن إبقاء حل الدولتين مجرد شعار معلّق يفرغ العملية السياسية من أي معنى، وأن الاعتراف بالدولة الفلسطينية هو الخطوة الطبيعية لتصحيح هذا الخلل التاريخي.
رغم أن الاعتراف لا يمنح فلسطين عضوية كاملة في الأمم المتحدة بسبب الفيتو الأمريكي المحتمل، إلا أنه يرفع مكانتها كدولة ذات سيادة في القانون الدولي. هذا التطور يعني إمكانية تبادل السفراء وفتح بعثات دبلوماسية، ويعزز من قدرة رام الله على اللجوء إلى المحاكم الدولية، خاصة محكمة الجنايات الدولية، لمحاسبة إسرائيل على جرائم الحرب. كما يفتح الباب أمام انضمامها إلى اتفاقيات ومنظمات دولية جديدة. سياسياً، يُضعف الاعتراف الغربي التسامح مع سياسات إسرائيل ويُحرج الحكومات التي ما زالت تبرر دعمها، بما يشير إلى بداية تشكّل عزلة دولية متنامية حول تل أبيب.
أحدثت الاعترافات الأخيرة شرخًا واضحًا في الموقف الأوروبي، إذ ما تزال دول كألمانيا متحفظة، لكنها تجد نفسها تحت ضغط متزايد مع استمرار الموجة، وهو ما يبرر تصويتها لصالح إعلان نيويورك بشأن تسويه القضية وتنفيذ حل الدولتين في 12 سبتمبر، رغبة في موازنه سياستها الخارجية تجاه الفلسطينيين والتزامها التاريخي تجاه الإسرائيليين. أما على الصعيد الإقليمي، لقيت الخطوة ترحيبًا واسعًا من جامعة الدول العربية ومنظمة التعاون الإسلامي، واعتُبرت انتصارًا معنويًا يعيد الزخم للقضية الفلسطينية في مواجهة اليمين الإسرائيلي المتطرف. ومع ذلك، فإن لهذه الاعترافات سقوفًا محددة، أبرزها غياب التوافق الغربي الشامل بفعل الرفض الأمريكي، محدودية أثرها المباشر على وقف الاستيطان أو إنهاء الاحتلال، إضافة إلى استمرار الانقسام الفلسطيني الداخلي الذي يضعف القدرة على الاستثمار في هذا التحوّل استراتيجيًا.
ما يحدث اليوم ليس مجرد تحول دبلوماسي، بل علامة على تبدّل المزاج الدولي تجاه إسرائيل وتقدّم ملموس للقضية الفلسطينية على الساحة القانونية والسياسية. صحيح أن الاعتراف وحده لا يخلق الدولة، لكنه يعيد طرح حل الدولتين من موقع أقوى ويمنح الفلسطينيين ورقة ضغط جديدة. ويبقى السؤال الجوهري: هل ستبقى هذه الاعترافات رمزية تُضاف إلى أرشيف القرارات المؤجلة، أم تتحول إلى أداة سياسية فاعلة تُجبر إسرائيل على إعادة حساباتها وتُمهّد لتسوية حقيقية طال انتظارها؟
باحث أول