لقد نشأت والدتي في مزرعة بسيطة خلال فترة الأزمة الاقتصادية في الثلاثينيات من هذا القرن. وظلت هي وبقية افراد العائلة يراقبون أسراب موجات الجراد وهي تلتهم كل شيء بما في ذلك الملابس المعلقة لتجف. لقد كانوا يكافحون الغبار المنساب من خلال الشقوق الموجودة في النوافذ وهياكل الأبواب، بينما هم يعدون وجبة دقيق الشوفان على الموقد الحديدي والذي يعمل بحرق سيقان الذرى. لقد كانوا متعاونون ويعملون كفريق واحد ولايسمح لأحد منهم بالتذمر حيث كان الكل يعمل بجد بنظام الدوام الواحد بعد السنة السادسة الابتدائية ولا يواجهون أي متاعب حتى في مواجهة خمسة من الصبية المشاغبين في الشارع حيث كان الحفاظ على السمعة هو الشاغل الأكبر لهم والذي كانوا يضعونه نصب أعينهم.
نزحت والدتي بعد ذلك إلى المدينة حيث تزوجت وشارك اثنان من إخوانها في الحرب العالمية الثانية، أحدهما في معركة جيما بمقاطعة أيوا والآخر مع الاتونيين في معركة البلقان.
بعد انتهاء الحرب عمل الإخوة في المزرعة أو في المدينة الصغيرة حيث نشأ أبنا عمومتي وكانوا يمارسون أعمال الحرث والزراعة ولعبة البيسبول وهواية صيد الطيور خلال فصل الخريف. أما النساء فكن يمارسن أعمال الطبيخ والخياطة وزراعة وتنظيف الخضروات. وكان هذا قريب من الاكتفاء الذاتي ولكن ليس اكتفاء كامل.
لقد كانت الحياة تسير بصورة رتيبة وكان كل مواطن يعرف الآخر. باستثناء سكارى المدينة، كانوا يستحمون في مساء السبت ويذهبون إلى الكنيسة في صباح الأحد وكانوا نادرا ما يزورون المدينة حيث "تنتشر الجريمة ويتم ضرب وسرقة المواطنين الملتزمون بالنظام والقانون".
ظلت هذه القصة تردد في كافة الأراضي الشاسعة في وسط أمريكا الغربية وولايات نبراسكا وأيوا ووسكنسون ومتشيجان وإنديانا، وهم المواطنون اللذين يعتقدون بأن أعمال الخير تبدأ من المنزل بينما حياة الرفاهية تبدوا لهم بمثابة الإهانة. إن الأخيار وملح الأرض من هؤلاء هم اللذين صوتوا لترامب.
بينما كبر أبناء عمومتي وقاموا بتربية الأطفال تغير العالم من حولهم. فأصدرت المحكمة العليا قرارا بالموافقة على الإجهاض، واحتل المكسيكيون وظائف مصانع تعبئة وتغليف اللحوم وأدخل الكوكايين والمخدرات الأخرى إلى البلد وبدأت قيم المجتمع في الانهيار. لم يكن الفقر هو المشكلة، فقد مروا بفترة الأزمة الاقتصادية من قبل ولكن المشكلة كانت في دخول المواد والأفكار الجديدة والتي اجتاحت حياتهم المنعزلة.
الجهل ليست مشكلة، فهم لم يرتادوا الكليات ولكنهم كانوا يعرفون كيف يعيشون إلى الدرجة القصوى - والتي لا يمكنهم مواصلتها الآن. لم يعد أبنائهم يناسبون وظائف وأدوار آبائهم الأوائل.
بدأت النساء في الخروج الى العمل خارج البيوت وتمت ميكنة الزراعة حيث أصبح بمقدور عائلة واحدة زراعة الأرض التي كانت تدعم وتعول حياة مائة وخمسة وعشرون من الناس في المنطقة المحيطة. تمكنت العائلات الميسورة من شراء الماكينات والآلات الزراعية بينما نزح الباقون إلى المدينة. لقد نمت المدن الصغيرة وتطورت لفترة صغيرة ثم بدأت في التلاشي والاختفاء واغلقت المصانع الصغيرة على السواء.
ظهرت أسواق وول مارت المكدسة بالبضائع الصينية الرخيصة واغلقت المحلات التجارية العامة. أيضا ظهرت محلات وول قرين المملؤة بالبضاعة الصينية واستأجرت الصيادلة المحليين وظهرت مطاعم ماكدونالد وانحسرت مطاعم البيرغر المحلية. حقا لقد ماتت المدن الأمريكية الصغيرة موتا بطيئا ومؤلما.
لقد أخبرتنا أحد صاحبات المقاهي في مدينة صغيرة بولاية نبراسكا أنها ممن أدلوا بأصواتهم لصالح ترامب ولكنها أحست أن عليها ضرورة الاستحمام لاحقا على حد قولها. لم تكن راديكالية بيضاء اللون ممن يحسون بعقدة التفوق والسمو ولم يكن سكان المدينة الصغيرة أغبياء أو كارهون للأجانب. ظل أبناء عمومتي يستخدمون البنادق في الصيد والحماية الشخصية من المعتوهين وكانوا يدركون ان احتمال ظهور أمثال هؤلاء الأشخاص أمرا غير وارد لكنهم كانوا يعيشون في عالم لا يختلف عن الحياة في الأحياء الفقيرة حيث تنتشر اخبار إطلاق الرصاص من نوافذ السيارات المارة ولم يكن غريبا اعتقادهم بآراء متباينة حول ضرورة وضع الضوابط لحيازة واستخدام الأسلحة النارية.
هنالك فرق كبير آخر بين سكان المدينة والريف حول نظرتهم إلى موضوع الأمانة والنزاهة والحق والباطل، حيث كانوا ينظرون بصورة واسعة جدا إلى هيلاري كلنتون بمثابة الشخص الغير مؤتمن وغير صادق وهو أمرا لم يكن مطاقا أو محتملا.
إذن ماذا كان سكان الريف يصوتون له وماذا كانوا يرفضون؟
لقد كانت الأغلبية تصوت من أجل الاستقرار والأمن والاعتماد على النفس في المدن الصغيرة. لم تكن صاحبة المقهى فى المدينة الصغيرة ترفض المكسيكيين لأنها تكرههم فقط بل كانت تعتقد بأنهم لا ينتمون إلى هذا الوطن ثم أنهم أشخاص مخالفون للقانون وأن أمريكا هي بلد تمثل الشعب الملتزم بالنظام والقانون.
كانت رافضة للإجهاض لأنه من وجهة نظرها هو أمر مقزز وفظيع ومخالف لأوامر الله وكانت أيضا ترفض البضائع الأجنبية خاصة الصينية لأن أولادها في حوجه ماسة للوظائف وعليه يجب أن تكون البضائع أمريكية الصنع، هي ترفض الإسلاميين لأنها ترى أنهم يمارسون قطع الرؤوس ويفجرون المدن وترفض برنامج أوباما الصحي لأنها لا تملك المال اللازم للتأمين الصحي لموظفيها.
يوجد مثل شعبي أمريكي يقول (لا تنتقد الشخص قبل أن تمشي ميلا في حذائه) فالأمريكيين من الأصول القروية قريبين جدا من جذورهم ويدركون قيمهم العائلية جيدا وهي القيم المرتبطة بالأمانة والاعتماد على النفس والعمل الدؤوب وأعمال الخير وتقديم الدعم للمحتاجين لقد صوت الأغلبية من هؤلاء لصالح ترامب.