الخميس, 21 نوفمبر, 2024

أساس الصراع في دارفور

ما مدى صحة اتهام البعض الحكومة السودانية باستغلال الجنجويد في مذابح جماعية؟


إن الإدعاء باستخدام الحكومة السودانية الجنجويد في الإبادة الجماعية للعنصر الإفريقي في منطقة درافور، يتجاهل كثيرا الطبيعة القبلية للنزاع التي تعود لقرون، كما يتجاهل جغرافية المنطقة التي تشهد على الدوام النزاعات على الكلأ والمرعى والماء.

ثمة التباس كبير حول طبيعة النزاع في دارفور والأطراف المسببة له. يعتبر عدد كبير من المحللين في الغرب أن الحرب هي حرب عرقية بين طرفين. وقد قاد هذا الاعتقاد إلى إدانة المحكمة الجنائية الدولية الرئيس السوداني عمر حسن البشير الصيف الماضي بالمسئولية عن تنظيم حملة إبادة جماعية ضد العنصر الإفريقي في الإقليم الذي يضم في أغلبه الفور والمساليت والزعاوة.

يتطلب الفهم الحقيقي لما يحدث في دارفور الإلمام التام بجغرافية وتاريخ المنطقة ومدى التغير الذي طرأ على أوجه الحياة في السنوات الأخيرة والمدى الذي أثرت به التغطية الإعلامية العالمية المخلة على الانطباعات العالمية.

تقع دارفور في غرب السودان وتبلغ مساحتها نصف مليون كيلومتر مربع تقريبا، أي خمس مساحة السودان البالغة 2.505.813 كيلومتر مربع (مليون ميل مربع)، وتكثر بها المرتفعات الجبلية وأشهرها جبل مرة، والذي كان ذات يوم أكثر المناطق اخضرارا في أفريقيا الساحلية، تتخلله الشلالات والبحيرات البركانية. وتنمو به الكثير من الأشجار والغابات الكثيفة المتشابكة، كما يمتاز بأخاديد مذهلة تمتد على مد البصر بدون أن يظهر لها قرار. بيد أن المنطقة تعرضت وخلال الثلاثين سنة الأخيرة لتدهور بيئي خطير بسبب موجات الجفاف والتصحر الشديدة. ولقد أثار النزاع حول الماء والعشب والأرض حالة من التوتر بين السكان الذين يعتمدون على الرعي في معيشتهم وأولئك الذين يعتمدون على الزراعة. وقد كانت النزاعات ذات مستوى قبلي محدود تشرف على حلها دائما الزعامات الأهلية.

عموما، تبدو قبائل المنطقة متشابهة، فقد ذكر تقرير للأمم المتحدة بأن القبائل الأفريقية المختلفة التي تتعرض لهجوم القوات السودانية والجنجويد والتي تتكون أساسا من الفور والمساليت والرزيقات لا تختلف كثيرا عن أشكال وأعراق مهاجميها.

أما العرب من البدو الرحل والبقارة والرزيقات وغيرهم، فهؤلاء هم من بات يطلق عليهم اسم "الجنجويد"، وهو اسم قديم في المنطقة يعني في الأساس بعض فلول العرب غير المنضبطين بالقوانين المدنية، إلا أن المصطلح اتسع لدى العامة ليصبح مرادفا للسلوك الهمجي. بيد أن العولمة أسهمت في تركيز الأضواء على المنطقة ليكتسب اسم "الجنجويد" سمعة سيئة، وليصم كل القبائل العربية بأنها تعمل على إبادة العنصر الأفريقي من القبائل التي تعيش تقريبا في قرى مستقرة دائمة. وفي حقيقة الأمر غلب التزاوج المختلط على قبائل دارفور، وأسفر عن مزيج فريد من ذوي الأصول الأفريقية والعربية.

لم يقتصر النزاع في دارفور على نزاعات القبائل العربية والإفريقية حول الكلأ والماء، بل ضم عنصرا جديدا، وهو المتمردين على حكومة الخرطوم، وتحديدا حركة العدل والمساواة وحركة تحرير السودان، والتي انشقت عنها عشر حركات، أبرزها ثمان، وهي؛ حركة تحرير السودان جناحي عبد الواحد محمد نور، ومني أركو مناوي، حركة تحرير السودان جناح الوحدة بزعامة محجوب حسين، حركة تحرير السودان مجموعة الـ19 ولها قيادة جماعية، وانشقت عنها "الجبهة المتحدة للمقاومة" بزعامة خميس أبكر، وهناك كذلك جناح أحمد عبد الشافع الذي انشق عن جناح نور، إضافة إلى حركة العدل والمساواة، وجناح عبد الرازق الأزرق المنشق عنها. وتتنوع اتجاهات هذه الحركات، فبعضها إسلامي الميول كحركة العدل والمساواة وأخرى علمانية ليبرالية كحركة عبد الواحد محمد نور، رغم انتساب زعيمها السابق للحركات اليسارية السودانية، وهناك حركات تعبر فقط عن قبائلها. وتتباين كذلك مطالب هذه الحركات بالنسبة للوضع في دارفور، فبعضها يريد وحدة السودان على أسس علمانية، وأخرى تريد حكما ديمقراطيا يعطي صلاحيات واسعة للإقليم ويضمن مساواة بين أقاليم السودان المختلفة في الحكومة المركزية ومؤسسة الرئاسة، كما ظهرت مؤخرا حركات تدعو لانفصال دارفور عن السودان وتكوين دولة مستقلة. وهذه الحركات تتكون في أغلبها من القبائل غير العربية من الفور والرزيقات والمساليت. تطمح كل هذه الحركات لنصيبها في كعكة الحكم في الخرطوم وتنادي بضرورة توزيع ثروة البلاد بصورة عادلة لتشمل التنمية مناطقهم.

لذا وبعيدا عن العداء العرقي القديم، ينبع الصراع الحالي في دارفور من ظروف التدهور البيئي الحاد، المرتبط بزيادة ظاهرة الجفاف والتصحر، وزيادة النزاعات، وتمرد البعض على حكومة الخرطوم.
وقد نفت الحكومة السودانية علنا دعمها الجنجويد، بيد أن أصابع اتهام كثيرة تشير إلى أنها توفر المال والسلاح للمجموعة، وقد أشركتها في هجمات مشتركة تستهدف القبائل التي ينحدر منها المتمردون.
ويمكن القول أن بعض القبائل العربية التي يمثلها الجنجويد، وبسبب تدني مكانتهم الاجتماعية في الإقليم نظرا لافتقارهم للأراضي، انتهزت الفرصة بالتحالف مع قوات الحكومة فيما يشبه زواج المصلحة. ترغب الحكومة السودانية في دحر المتمردين، بينما ترغب القبائل العربية الممثلة في الجنجويد في الحصول على نصيب أكبر من الأراضي والمكانة الاجتماعية.

وقد ظهرت في المنطقة أيضا وبسبب شح الموارد، عدة عصابات نهب مسلح أخرى حصلت على السلاح من تشاد المجاورة، مما أدخل المنطقة في حلة من الفوضى. لقد اختلط الحابل بالنابل الآن في المنطقة، بحيث يتعذر تمييز عصابات النهب المسلح، من الجنجويد، من المتمردين، في منطقة تعاني من الفقر. وربما يكون الأمر برمته قد خرج عن أيدي حكومة الخرطوم منذ فترة طويلة. إن قصف الحكومة مناطق جرداء تعج بالمدنيين بالطائرات دليل على عجز الحكومة من ضبط الأوضاع على الأرض.

وقد قادت هذه الهجمات العشوائية، إلى الاعتقاد في الغرب بأن حكومة الخرطوم تستهدف المدنيين من القبائل المستقرة بهدف القضاء على العنصر الإفريقي، بجريرة أن المتمردين الذين دخلوا في صراع مسلح مع الحكومة منذ العام 2003 ينحدرون من بين ظهرانيها.

الصراع في دارفور أبعد ما يكون عن الحرب العرقية بين العرب والأفارقة. فقد تعايشت هذه القبائل منذ آلاف السنين. إنه صراع ناجم عن عدم التنمية المدروسة الذي أسهمت الحكومات المتعاقبة على السودان في تأجيج جذوته بغض الطرف عن تنمية الإقليم وعدم التوزيع العادل لثروة البلاد، وهو الأمر الذي زاده الجفاف والتصحر سوءا. إن منطقة دارفور منطقة بكر مميزة، تعج بالكثير من كنوز الطبيعة. ولا شك في أن العالم من أقصاه إلى أقصاه سمع الآن بدارفور، وبالتالي ليس من الصعب حشد المساعدات الدولية لتطوير الإقليم والخروج به من الوضع المأساوي الذي يرزح تحته.

د. سمية آدم عيسى

د. سمية آدم عيسى

باحث اول (سابقا)

المزيد

مجالات الخبرة

  • الكتابة
  • باحث
  • التعديل
  • الترجمة

التعليم

  • دكتوراه في الترجمة العامة.
  • ماجستير في الترجمة والترجمة الفورية ، الجامعة الأمريكية في الشارقة ، الإمارات العربية المتحدة.
  • بكالوريوس. في الاقتصاد الريفي ، جامعة الخرطوم ، السودان.

السيرة الشخصية

كاتبة متخصصة في الشئون السياسية والجيوستراتيجية ومترجمة ذات خبرة كبيرة، فقد ترجمت لمنظمة الأغذية والزراعة التابعة للأمم المتحدة والمنظمات الإقليمية والدولية الأخرى. مؤلفة لقاموس العلوم السمكية والبحرية، قاموس إنجليزي-عربي الأول من نوعه في العالم العربي. مؤسسة ومالكة شركة (تي بي ال تي) للترجمة، الخرطوم، وهي الشركة التي ترجمت التشريعات في موقع الميزان لدولة قطر إلى الانجليزية. لديها خبرة كبيرة في مجال البحث العلمي، والكتابة، بالإضافة إلى ترجمة عدد كبير من الدراسات الاقتصادية والإدارية والعلمية. متطوعة في عدد من الجمعيات النسائية والجمعيات غير الحكومية الأخرى.