الثامن من ديسمبر من عام 2024 مثّلت لحظة سقوط نظام بشار الأسد وتحرير دمشق لحظة انفراج إنساني وسياسي وأمني في كامل المنطقة العربية، السوريون تحرروا من بطش نظام استخدم ضدهم كل أنواع التعذيب، والعرب تحرروا من وطأة سياساته التي هدّد بها أمن واستقرار جيرانه، ابتداءً بالكبتاغون وانتهاءً بنشر الميليشيات المتطرفة وتهريب السّلاح ودعم الفكر الطائفي وتعاونه مع دول معادية للدول العربية.
الأوروبيون تحرروا مع تحرر السوريين، يبلغ عدد سكان أوروبا حوالي 450 مليون نسمة وهي تستضيف حوالي مليون ونصف لاجئ سوري - رغم قلّة عددهم مقارنةً بتعداد سكان القارة الأوروبية وحجمها - تم استخدامهم كأداة تحريض لصعود اليمين المتطرّف في أوروبا ما يجعل التحرّر السوري في دمشق تحرراً موازياً للأوروبيين من خطر صعود اليمين من خلال وقف موجة اللجوء وأسبابه.
وصفةُ النجاح للحفاظ على لحظة النشوة المتمثلة بفرح السوريين وفرح العرب والغرب الحذر، حقيقةً، لا تحتاج للحذر بل للعمل والإيمان بأنّ النتيجة الحتمية هي السلام والازدهار للجميع في سوريا والمنطقة لأنّ الحذر يعني التشكيك، والتشكيك يؤدي لإنتاج أنصاف سياسات ومن المهمّ الاعتراف بأنّ الأطراف التي سيطرت سابقاً ولعقود لم تتبنى أنصاف سياسات وقد تسعى للعودة أو للتخريب من خلال تهديدات أمنية عميقة لبنية المؤسسات والمجتمع في مرحلة لا شكّ أنها استراتيجية ودقيقة للغاية.
أولاً: على صعيد الداخل السوري
بالنسبة لتواجد هيئة تحرير الشام كقائد للمرحلة الانتقالية وخلفيتها "القاعدية"، فهو قلق مشروع، لكنّ الأفعال حتى الآن على الأرض تشير لتطهير داخلي عملي وفكري تم ضمن عناصر الهيئة ابتداءً من القمة المتمثلة بأحمد الشرع (الجولاني سابقاً) وانتهاءً بالأفراد الذين انتشروا للحفاظ على الأمن في شوارع سوريا من إدلب وحتى طرطوس مروراً بدمشق وقد نجحوا بنسبة مفاجئة في منع الفوضى واستعادة الحياة الطبيعية في الشوارع.
التقدير المبدئي من خلال مقابلات أحمد الشرع على CNN وBBC هو أنه لا ينوي أخذ سوريا غنيمة لفوزه العسكري وأنه يسعى لتداول السلطة وتبني دستور جديد وانتخابات فعلية لأول مرة في تاريخ سوريا الحديث، بالتالي الحَكَم هو قيامه بتسليم السلطة في آذار/مارس لحكومة انتقالية وهي خطوة لن تكون سهلة عليه أو على من حارب معه لعَقد من الزمن ويجب الاعتراف بالحاجة لدعم قراره والتركيز على أسهل وأقصر طريقة ممكنة للوصول للانتخابات، والمهم أيضاً الانتباه من عدم محاولة الدعوة لإقصاء مجموعة هي من قامت بالتحرير، فالعدالة لا تحتمل الإقصاء من أي طرف لأي طرف لمجرّد رفض شكله أو معتقداته السابقة أو الراهنة، فالمبدأ هو منع فرض المبادئ على الآخر فقط.
هناك مقترحات بتفعيل دستور عام 1950 ومقترحات بإنشاء جمعية تأسيسية لصياغة دستور مؤقت يقود لانتخابات، إشكالية دستور 1950 هي أنّه يعود لأكثر من سبعين عام وإنشاء جمعية لصياغة دستور سيطرح علامات استفهام حول الشخصيات التي تمتلك شرعية كافية خارج إطار الانتخابات لكتابة دستور يتم الاستفتاء عليه لاحقاً، وهو الجدل القائم في الوقت الراهن.
كيفية الانتقال لدستور مؤقت وهيئة حكم انتقالي، والحقيقة أنه قد لا توجد إجابة واحدة صحيحة وكل الحلول تُطرح للنقاش وهو أمر صحّي نظراً لشحّ العمل السياسي في سوريا طوال العقود السابقة والطلب الأول والأخير هو للداخل السوري لقبول العملية الانتقالية التي لن تكون مثالية ولا يجدر بنا أن نتوقع مثاليتها لكنّ الفكرة المركزية هي أنها لن تكون النهاية بل ستكون بداية العمل والتغيير المستمر باتجاه دولة القانون والمساواة والعدالة والحياة الكريمة.
باعتقادي التركيز على هذه الأهداف هو العنصر الأهم، بينما كيفية الوصول إليها قد يكون من خلال جميع السُّبّل وليس أحدها حيث يمكن العمل بدستور 1950 وبذات الوقت الدعوة لكتابة دستور جديد من خلال الاستعانة بخبراء القانون الدستوري السوريين في الداخل والخارج لضمان تنوع خلفياتهم والأهم الاستعانة برأي معتقلين ومعتقلات سابقين واستشارة نشطاء المجتمع المدني باعتبارهم ممثل مبدئي لشرائح المجتمع السوري بكلّ مكوّناته.
السوريون، كلّ السوريين يحلمون بوطن خالي من المحسوبيات، خالي من الذلّ القائم على فئات أو طوائف أو مناطق، خالي من التبعية لأي دولة أو أجندة، ومن العداء القائم على المصلحية الفردية والعائلية، ولن يقبل أحد ولن يمكن لأي طرف إدارة شعب بتغيير هويته، فشلت إيران وحزب الله بذلك وسيفشل غيرها.
ثانياً: على صعيد العلاقات الخارجية
علاقة سوريا بمحيطها العربي تعززت من خلال الشعب المتواجد في الدول العربية والخليجية، كان من أوائل مطالب السوريين التي انتشرت على وسائل التواصل الاجتماعي بناء برج كبرج خليفة في الإمارات ومدّ الجسور والطرقات والمترو والقطارات، والاستعانة بالسعودية وقطر لتوفير الطاقة والكهرباء، بعد سنوات من الظلام الدامس في سوريا.
جميع السوريين تلقّوا التّهاني من إخوتهم العرب في كل الدول التي تواجدوا فيها، وحتى الإشارة لإعادة النّظر في شرعية الأسد أو مطالب كثير من السوريين وبعض الدول العربية والغربية في السرّ أو العلن لرفع العقوبات وتجاوز مرحلة ما قبل سقوط النظام، هدفت لاستعادة السوريين لحياتهم في وقت لم يكن هناك أي احتمال لمثل هذه الانفراجة التي حصلت في 8 ديسمبر، ولم تكن بأي حال محبّة أو تقدير لنظام من المعروف كم قام بجرائم ضد شعبه، ما يجعل فرحة النصر لنا جميعاً وخروج من أزمة استمرار الأسد بالتعنّت ورفض التسويات السياسية التي عرضت عليه مراراً.
بشار الأسد كان شخص غادِر وغَدَرَ بكل من دَعمه ووالاه وقُتِل في سبيله، ولا أسف عليه من أي أحد من العرب أو الغرب.
إيران وروسيا، تحتاج العلاقة مع هاتين الدولتين لحنكة سياسية وإدارة لمشاعر المواطنين فلا شكّ أنّ النظام سقط لكن روسيا أيضاً لم تقرر القصف كما حصل في تدمير 2015، كما لم تقرر إيران إرسال قواتها للدفاع عن نظام الأسد خلال فترة تهالكه، بينما لم يكن حزب الله قادراً على القيام بمثل هذه الخطوة بسبب اتفاقه مع إسرائيل وحاجته للحفاظ على مواقعه وما تبقى من سلاحه في لبنان، هذه العوامل يجب أخذها بعين الاعتبار وبصرف النّظر عن الأسباب المتعلقة بأولوية حرب أوكرانيا أو بالحذر من اقتراب وصول الرئيس ترامب للبيت الأبيض فالنتيجة هي أنّ عدم التدخل أدى لتحرير سوريا من نظام الأسد.
تركيا، الدولة الجارة التي استقبلت السوريين بأعداد كبيرة ومنحت كثير منهم جنسيتها، وأدت سياسة الرئيس إردوغان لتبعات سياسية داخلية سلبية على حزب العدالة والتنمية انتهت بمشاركة تركيا في محاولة التعامل مع بشار الأسد والذي قابلها أيضاً بالمواربة والتلاعب. تركيا اليوم تلعب دور مباشر في تقديم الخدمات في الداخل السوري وتمتلك علاقات قديمة بالفصائل المسلحة ومن المتوقع أن تحظى العلاقات السورية-التركية كما القطرية-السورية بميزة ترتبط باستمرار الدعم السياسي والإنساني وبالعلاقة مع المعارضة التي يتواجد كثير منها في الدوحة وإسطنبول، وهي علاقات تحتاجها الدولة السورية الجديدة كما تحتاج للدول العربية والإقليمية جميعها دون استثناء.
سوريا، تقدّر وتحتاج للعلاقة مع تركيا واستمرار دعمها السياسي وللتعاون الاقتصادي معها، ما يجعل جواب القيادة السورية الجديدة لسؤال التهديد الكردي لتركيا وللسوريين داخل الأراضي السورية مهم لإنهاء حقبة العمليات العسكرية ولأي ميليشيا تابعة لأي طرف خارج الدولة السورية وهذا يتضمن التعامل مع قسد ومع أي تهديد من داعش أيضاً.
إيران، خسرت كثير من قوتها في لبنان وخسرت تبعية نظام دمشق لها، وهي تحتاج للدول العربية والخليجية وليس لسوريا، فاتجاهها لتبني علاقات احترام مع المحيط الإقليمي سياسة جديرة بالدعم من دول المنطقة، بينما سيعتمد إدماجها في المجتمع الدولي بمباركة أمريكية وعلى إمكانية التوصّل لاتفاق بينها وبين إدارة ترامب القادمة وهو اتفاق يصبّ في مصلحة الاستقرار في الشرق الأوسط لأنه يسمح لقلب الصفحة من حقبة كانت مدمّرة بالنسبة للأمن والمواطنة والازدهار في المنطقة العربية وأولها كان تدمير لبنان وسوريا وتهديد أمن دول الخليج من خلال نشر أفكار تركّز على الصراع الطائفي وتتسبب بشروخ في المجتمعات وتُشغل الدول باحتواء تداعياتها.
روسيا، دولة بعيدة بالنسبة للشرق الأوسط وكان من المتوقع خروجها عاجلاً أم آجلاً من سوريا وهي لم تكن تنتشر كقوات على الأرض بل تمركزت في مواقع عسكرية وموانئ بدأت تنسحب منها بالتالي لم تكن تشكّل تهديد استراتيجي على المدى الطويل بعكس الميليشيات التي كانت تمثّل التهديد الأبرز على سيادة الدولة السورية. ومن المتوقع أن تكون إدارة العلاقات معها قائمة على البراغماتية لكن من غير المتوقع أن تعود لسابق عهدها لأسباب معروفة تتعلق بتسوية المدن السورية من قبل الطيران الروسي وفي جميع الأحوال لا تمثّل سوريا شريك أو حليف استراتيجي بالنسبة لروسيا، بينما تعتبر علاقتها مع دول مثل دولة الإمارات والسعودية علاقات أكثر أهمية على مستوى اتفاقات أوبك+ والوساطة في الأزمة الأوكرانية لتبادل الأسرى وغيرها من الملفات الاقتصادية والسياسية التي لم يتوقف العمل عليها.
الغفران، حتى في العلاقات السياسية بين الدول يحتاج للوقت وأوروبا بعد الحرب العالمية الثانية ومعسكرات الاعتقال فيها مثال حيّ على ذلك.
على من يعوّل السوريّون؟
يعوّل السوريّون على علاقتهم مع الدول العربية بالدرجة الأولى لأنهم الشركاء السياسيين لشرعية الدولة السورية الجديدة وبدون دعمهم ستواجه المرحلة الانتقالية مخاطر تتجاوز التحديات التي يحتاج الشعب مواجهتها وإدارتها.
لا شكّ أنّ أمثلة دول أخرى تبقى مخيفة كأحد السيناريوهات التي تفسّر الحذر الدبلوماسي في العواصم العربية، والاعتماد على مشاركة مواقف المجتمع الدولي لدعم سوريا ومستقبل شعبها ومن المهمّ التأكيد على أنّ المرحلة هي مرحلة تأسيس وبناء بالنسبة للسوريين لكنها جاهزة للبدء من أسس متينة مع الدول العربية وخصوصاً دول مثل الإمارات وقطر والسعودية ومصر وغيرهم من الدول العربية التي استقبلت السوريين ودعمت رحلتهم وتعرّفت عليهم بشكل أكبر خلال هذه الفترة التي شهدت خروج جماعي واسع بعيداً عن أرض الوطن السوري.
المجتمع الدولي والولايات المتحدة الأمريكية بصورة خاصة لم يُسهموا بشكل مباشر في إسقاط النظام بصورة سريعة تُعفي السوريين من معاناة طويلة كما حصل في دول أخرى، ولا زال الخطّ الأحمر الذي رسمه الرئيس السابق أوباما عالق في ذاكرة السوريين مع مشاهد الهجوم الكيماوي في الغوطة، لكن مسألتين هامتين نتجتا عن هذه المعاناة، الأولى هي أنّ النّصر لم يتم خلال أحد عشر يوماً انتهت بتحرير المدن السورية، بل تمّ النصر بمعاناة ملايين المعتقلين والمهجّرين والجائعين والمقاتلين وهذا يعني أنّ الحاضر والمستقبل ثمين جداً وثمنه دماء وسنين عمر طويلة ضاعت ولن يُسمح بإهدارها.
المسألة الثانية تتعلق بالعقوبات التي أسهمت في تفريغ النظام من بنيته الاقتصادية وقدرته على الحفاظ على قوته وعلاقته بحلفائه، العقوبات التي كرهها السوريون الذين شهدوا معاناة أهلهم في الداخل، عانى منها السوريين أنفسهم وليس أسرة الأسد أو المقربين منهم وهي حقيقة، لكنها بذات الوقت أسهمت في إسقاط النظام والآن يجب أن تسقط معه بدون تأخير، فالاقتصاد عِماد الاستقرار والعلاقات الاقتصادية عِماد العلاقات الدبلوماسية، وهذا كلّه يحتاج لقفزة إيمان من الدول العربية لدفع عجلة الخروج من الحقبة السابقة وتسريع إجراءات رفع العقوبات.
يجدر التأكيد مراراً من القيادات الجديدة الراهنة والمستقبلية، أنّ زمن الأجندات انتهى وأنّ السوريين يركزون على بناء سوريا فقط، وهم ليسوا جزء من مشاريع تسعى لإثارة أي فوضى، أو دعم أي أجندة أو تصدير أي أفكار أو ثورات أو ميليشيات لأي دولة ومن أي دولة فهذا هو العنصر المركزي في احترام سيادة الدول والعلاقات معها وعدم التدخل في شؤونها بناءً على أي معتقد أو سبب أو هدف.
السوريون يعوّلون على الأسرة العربية ومشهد إعادة فتح السفارة القطرية ينتظر مشاهد فتح سفارات الدول الشقيقة قريباً ليكون صَيفُ سوريا بعودة الطيران الدولي صيفٌ حافلْ بعودة السوريين والزوّار العرب.