واجه المملكة العربية السعودية جُملة من التحديات الأمنية التي ترتبط بوجود ميليشيا الحوثي على حدودها الجنوبية والتي تسببت مخاطرها المتصاعدة بإعلان الملك سلمان بن عبد العزيز دخول السعودية في عاصفة الحزم عام 2015 ضمن منظومة التحالف العربي، الذي يهدف لاستعادة الدولة اليمنية واحتواء نفوذ إيران الإقليمي، والحفاظ على الأمن القومي السعودي، من جهة أخرى تواجه السعودية كمثل الدول العربية الأخرى في المنطقة، مخاطر الإرهاب المتمثل بتنظيم داعش والقاعدة، وهو خطر خيّم على دول الشرق الأوسط، منذ اندلاع الربيع العربي، هذا الخطر هو الذي دفع السعودية للانضمام للتحالف العالمي لمحاربة داعش ولتشكيل التحالف الإسلامي لمحاربة الارهاب والذي تشكّل من 34 دولة إسلامية. في ظلّ هذا المشهد الذي يطغى عليه الطابع الأمني، كانت المنظور العسكري هو الطاغي في السعودية، وهو لا يزال كذلك بالنسبة للعديد من الدول الإقليمية التي تمتلك قلق أمني عالي المستوى، القلق الذي تتسبب به سلسلة الأحداث المتسارعة والتي لا تتوقف في المنطقة العربية. هذا كلّه لم يعني أنّ السعودية لا تمتلك أجندة سياسية، فأيّ جهد ينتهي بتشكُّل حلف عسكري، فهو يمتلك لا محال خلفيات وعمل سياسي لجَمْع الحلفاء ومقاطعة المصالح بين الدول. مع ذلك نلحظ أنه في الشهور الأخيرة قد ازداد مستوى تركيز الحكومة السعودية على القنوات السياسية، حيث تكثّفت اللقاءات، وتوزيع الشخصيات الشابة، صاحبة الخبرة في مراكز ومؤسسات الدولة، كما ازداد تركيز الرأي العام السعودي والنُّخبة المجتمعية والصحفية على المسارات السياسية التي تعمل عليها الحكومة، ويؤشر هذا المناخ على حصول انزياح في السياسة الخارجية السعودية، تخفّض من خلاله من استخدام الأدوات الخشنة وتفتح مجال أكبر لقوّتها الناعمة.
تَشهَد السعودية حراكاً دبلوماسياً واسع الطَّيف، وقد نجحت أخيراً في التوسط بين الأطراف اليمنية للتوصل لاتفاق يحلّ الخلاف بين المجلس الانتقالي الجنوبي والحكومة الشرعية برئاسة عبد ربه منصور هادي. لا شكّ أنّ الغوص بالشأن اليمني صعب ومعقّد للغاية لكن بدا أنّ الأمير خالد بن سلمان قد استطاع الإمساك بأطراف الملف اليمني بشكل حصيف، مُحققاً النتيجة المرجوّة بإعادة وحدة الصفّ اليمني في مواجهة التدمير الذي تستمر جماعة الحوثي بتحكيمها في اليمن، من خلال الاستمرار بالحرب وخرق الهُدن التي يتم التوصّل إليها مع الأمم المتحدة.
بعد سنوات من الحرب، يمكن القول أنّ اتفاق الرياض وموافقة المجلس الانتقالي والحكومة الشرعية على تقاسم الوزراء مناصفة في الحكومة كان تقدماً هامّ للغاية، ليس بحدّ ذاته فقط باعتبار أنه وَضَعَ حدّاً للاستنزاف ضمن تحالف الشرعية، إنما أيضاً على الجانب الموضوعي باعتبار أنّ الاتفاق قدّم شكلاً مقبولاً للتقاسم السياسي لدى الطرفين، فبالنّظر للحروب الأهلية والنزاعات العميقة في دول المنطقة نجد أنّ التوصّل “لحلول وسط” والموافقة عليها يحتاج لرويّة، ونقاش طويل، لإقناع الأطراف، بأنّ هذا هو الحلّ الوحيد في الوقت الراهن، وأنّه الحلّ المطلوب لإنهاء الأزمة.
اتفاق الرياض يشير أيضاً إلى أنّ الأطراف اليمنية المختلفة نفسها قد توصلت لنتيجة مفادها أنّ التعنّت سيأتي بنتائج كارثية على الجميع، وأنّه لن يكون لأي طرف الفوز على الطرف الآخر، وبالتالي فإنّ اللاعب الرابح سيكونون هم الإيرانيون وحليفهم الحوثي.
هذه العقلانية والمنطق السَّليم الذي جَمع الأطراف، لا يعني أنّ التحديات غير موجودة، إذ لا يمكن تصوّر حلّ الخلافات الجذريّة بناءً على تصوّر مبدئي لما يمكن أن يكون عليه المشهد السياسي والعسكري، بل الأهم من كل ذلك هو كيفيّة تطبيق هذا الحلّ المتعدّد الوجوه عملياً وعلى الأرض، بما يضمن استمرار دعم الأطراف الموقعة عليه، وبما يضمن منع الأطراف ذات المصلحة بالتشويش عليه ومنعه من النجاح، ففي الحروب الأهليّة تغلب عناصر التخريب على عناصر البناء حتى تضيع كلّ القيم التي حارب من أجلها الفرقاء، وفي النهاية يحصل الاتفاق بعيداً عن أي مبدأ سوى تحقيق السّلام والحفاظ على الأمن.
السعودية قامت أيضاً بتدعيم مفاصلها الدبلوماسية من خلال تقديم شخصيات جديدة لإدارة علاقاتها الخارجية، من ضمنها الأمير ريما بنت بندر التي تم تعيينها من الملك سلمان بن عبد العزيز سفيرة للسعودية لدى واشنطن، وقد بدأت فعلاً الأميرة ريما من خلال نشاطها بجذب انتباه الكثير من المختصين الأمريكيين في الشأن السعودية، باعتبارها أول امرأة سعودية يتم تنصيبها كسفيرة ولدى أهمّ حليف بالنسبة لدولتها. من جهة أخرى يأتي تعيين الأمير فيصل بن فرحان بن عبد الله آل سعود وزيراً للخارجية، وهو يعتبر من الشخصيات صاحبة الخبرة ولفترة طويلة من الزمن وفي عدد من المناصب الحكومية الحسّاسة، وهو الأمر الذي يفسّر خوف بعض وسائل الإعلام العربية والإيرانية من تعيينه وبالتالي محاولة انتقاده وتشويه صورته قبل مباشرته لعمله. الأمير فيصل يمتلك علاقات ممتازة في الولايات المتحدة بحكم عمله في سفارة السعودية في واشنطن، كما أنه يتقن الإنكليزية والألمانية وهي مزية ثقافية-سياسية لوزير الخارجية، تجمعه بالفكر الغربي من طرفه الأوروبي والامريكي، هذه الحقبة تتميز بسوء الفهم، وسوء التقدير المرتبطة بماهيّة العرب والمسلمين وأهدافهم بل وتطلّعاتهم ضمن المجتمعات الغربية.
جاءت زيارة الرئيس بوتين للسعودية في وقت حسّاس للغاية بالنسبة للمنطقة والتي واجهت تصعيد إيراني وتعطيل للملاحة في الممرات البحريّة واعتداء على المنشآت النفطية السعودية، الاتفاقات التي تم التوصّل إليها مع روسيا من المتوقع أن تفتح للسعودية أفق جديدة ضمن مشاريع نقل المعرفة والتكنلوجيا والمشاريع الصناعية، فما تريده السعودية ضمن خطة 2030 من العالم ليس استيراد البضائع، وليس تصدير النفط وحسب، بل هي تريد توسيع أفقها الاقتصادية وحيازة قدرات صناعية وتكنلوجية تجعلها قادرة على تصدير المنتجات بنفسها، فالسعودية تمتلك التعداد السكاني الذي يخوّلها للتحوّل لدولة صناعية، بل هي تحتاج لهذا التحوّل بسبب امتلاكها لتعداد السُّكّاني المناسب.
القول أنّ زيارة بوتين للسعودية بعد اثني عشر عاماً هو انعكاس لتزايد الدور الروسي في الشرق الأوسط أمر قد يحمل كثير من الصّحّة، لكنه يشير أيضاً إلى أنّ روسيا اتجهت لاستغلال أوّل فرصة بعد إثبات نجاحها في سوريا في إقامة علاقات أكثر متانة مع السعودية، وهو انعكاس لأهمية السعودية بحدّ ذاتها على المستوى الإقليمي، وهذا رغم علاقات الروس ومصالحهم مع إيران التي تعتبر الخطر الأوّل بالنسبة للعرب، وهو ما يفسّر قول بوتين أنه لا يدعم دولة ضد دولة في المنطقة، بالإشارة لعدم موافقته أو دعمه لأي اعتداء من إيران ضد السعودية إثر الحديث المتعلق بهجوم أرامكو ومسؤولية إيران عنه.
خلال زيارة الرئيس بوتين للسعودية حاول بعض الباحثين القول أنّ جُلّ ما يمكن أن تقدّمه روسيا للسعودية هو التكنلوجيا النووية التي يعتبر نشرها في المنطقة خطر استراتيجي على العالم، وأنّ بوتين يريد بزيارته إعادة إحياء المحادثات المتعلقة بصفقات الأسلحة وصواريخ S-400 والتي يمكن أن يكون لها مكان في ذهن وزارة الدفاع في المملكة بعد هجوم أرامكو، ولكن ما حصل هو أنّ السعودية لم تفعل ما فعلته تركيا العضو في الناتو ولم تعرّض الولايات المتحدة الأمريكية وعلاقتها معها للمسائلة في هذا التوقيت من خلال فتح أي محادثات ترتبط بالأسلحة الروسية، التي تتعارض مع التجهيزات العسكرية الأمريكية والبريطانية التي تعتمد عليها السعودية، رغم أنّ مثل هذا النقاش حصل خلال زيارة الملك سلمان لروسيا عام 2017. ولكن صفقة أسلحة مع روسيا في مثل هذا التوقيت سيُسهم في تغذية بعض التقارير التي شكّكت بفاعلية الأسلحة الامريكية وقدرتها على حماية السعودية بعد هجوم أرامكو، وسيرفع مستوى الانتقاد ضمن الأروقة السياسية المعادية للسعودية في واشنطن باعتبارها تستبدل حلف أمريكي بآخر روسي وهو أمر غير صحيح حتى ولو قامت السعودية فعلاً بمثل هذه الصفقات. من جهة أخرى، فالسعودية لم تفتح نقاش أو تعقد اتفاق يرتبط ببرنامج نووي مع روسيا، على العكس فبعد رحيل بوتين أعلن وزير الطاقة الأمريكي ريك بيري أنّ هناك محادثات حول الطاقة النووية لأغراض لسّلميّة بين السعودية والولايات المتحدة وأنها تتقدّم بشكل إيجابي.
المغزى هنا يرتبط بتمييز القيادات السعودية وبشكل واضح بين العلاقات الاستراتيجية التي تجمع السعودية والولايات المتحدة الأمريكية، وبين العلاقات الحديثة التي تعتمد على الجانب الاقتصادي وعملية بناء الثقة والتي بدأتها السعودية مع روسيا والتي تعتبر من ضمن أجندة التوجه شرقاً مع صعود الصين في الاقتصاد العالمي، وتسابق كل دول العالم للاستفادة من مشروع طريق الحرير الذي تم الإعلان عنه من الرئيس الصيني اكسي جن بين عام 2013 من كازاخستان. إذاً المبالغات التي ترافقت مع زيارة بوتين والتي هدفت للإضرار بعلاقات السعودية بالولايات المتحدة لم تنجح، والمساعي التي يبدو أنها ترتبط بأهداف سياسية لإيذاء الرئيس ترامب مع اقتراب انتخابات 2020 الرئاسية، أيضاً لم تنجح باستخدام السعودية لوصف سياساته في الخليج بالسيئة، وخرجت السعودية باتفاقيات مهمّة جداً مع روسيا، وعلاقات لا تشوبها الصحافة الصفراء مع الولايات المتحدة.
في إطار دعمها للدول العربية تعمل السعودية مع الامارات في دعم الفترة الانتقالية للسودان والمساهمة في عوامل نجاحها سواءً على الصعيد السياسي من خلال الوساطة التي نجحت في التوصل لاتفاق بين الأطراف السوداني، وسواء على الصعيد الاقتصادي من خلال طلب السعودية رفع السودان من القائمة الامريكية للدول الراعية للإرهاب، ومن خلال تقديم المنح التي وعدت كل من السعودية والامارات بها، حيث أعلن وزير المالية السوداني عن تلقي السودان نصف الدعم البالغ 3 مليارات دولار، وعن الاستعداد لاستكماله نهاية العام المقبل ومن المفيد التوضيح هنا أنّ السعودية هي أكبر مستثمر خليجي في السودان بمبلغ يقارب 11 مليار دولار، بينما حصة قطر على سبيل المثال لا تتجاوز 1.5 مليار دولار.
تنشط الدبلوماسية السعودية هذه الفترة أيضاً في ملف القضية الفلسطينية، والتي تختلف فيها السعودية عن الإدارة الأمريكية التي تريد فرض صفقة القرن على الفلسطينيين، وقد ثبّت الملك سلمان بن عبد العزيز موقف المملكة الداعم لحلّ الدولتين بما يتّسق مع قرارات مجلس الأمن والإجماع الدولي، خلال لقاءه بالرئيس محمود عباس، رافضاً بذلك سياسة فرض الأمر الواقع على الفلسطينيين.
انخراط المملكة بجُملة كبيرة من العلاقات المتشابكة أحياناً والمتناقضة ظاهرياً أحياناً أخرى، يشير إلى رؤية جديدة وبعيدة المدى للحياة السياسية السعودية، ولأجندة يتم التخطيط لها بحكمة وهدوء بما يضمن الوصول لنتائج تخدم مصالح السعودية نفسها، لكنها رؤية تتقاطع أيضاً مع الدول المتحالفة معها، سواءً في الإقليم وأهمها دولة الامارات، أو في الساحة الدوليّة. المرونة في التحوّل من مسار سياسي لآخر يمكن اعتبار أنه صفة جديدة باتت تتحلّى بها الحكومة السعودية، وهي كمثل المشاريع التجديديّة التي تزخر بها المملكة في السنوات الأخيرة، مفاجئة وإيجابية، وجريئة، والأهمّ من كل ذلك أنها كلّ ما أراده وتمنّاه العرب للسعودية منذ عقود.