"لتهزم العدو يجب أن تعمل على فهمه جيداً"! هذه المشورة القديمة من صن تسو في كتابه الأسطوري "فن الحرب" لا تنطبق فقط على المجال العسكري ولكن الأهم من ذلك أنها ترتبط أيضاً بالنظام الاجتماعي بشكل عام؛ الثقافة، الاقتصاد، النسيج الاجتماعي، والاختلافات السياسية والقبلية. فهل تغيرت أجندة الحوثيين العسكرية والسياسية بعد التدهور السريع للمؤتمر الشعبي العام الذي شكل مظلة الدولة السياسية ومعمل تفريخ القادة السياسيين، أم ان الحوثيين سيستمرون على ذات النهج الذي تبنوه خلال تحالفهم مع صالح دون تغيير؟
استمرار النهج الحوثي يعني غموض الرؤية المستقبلية لليمن كون الحرب عند الحوثيين أضحت وظيفة من لا وظيفة له. وهي مصدر العيش ومصدر وجودهم منذ انطلاقهم عسكرياً في 2004 حتى اليوم.
فالحوثيون يستمدون وجودهم من القتال ووقف القتال يعني نهايتهم.
ومن أجل استمرار القتال واقناع اليمنيين سواء كانوا جنوداً في أرض المعركة أو تجار أو مواطنين عاديين بأن الحرب أضحت ضرورة لابد منها فإن الحوثيين يجيدون فن إبراز العدو للشعب اليمني لتأكيد عوامل الظلم والاستعباد والقهر والاستغلال. وقد مثلوا هذا العدو داخلياً في الحكومة الشرعية خصوصاً وأنها لا تحظى بتأييد الشارع اليمني بشكل عام سواء جنوبه أو شماله لكون معظم رموزها يعدون امتداداً لنظام الرئيس الراحل صالح كما أن استمرار سوء الأوضاع داخل اليمن بدءاً من انقطاعات الرواتب ووصولا إلى انقطاع الكهرباء والماء وانتشار الأوبئة جعل الحكومة ضعيفة جداً في مواجهة المواطنين. أما العدو الخارجي فقد ركز الحوثيون على المملكة العربية السعودية كعدوهم الأساسي في محاولة لتحوير الصراع من صراع يمني يمني إلى صراع يمني سعودي لإقناع اليمنيين أن عدوهم من خارج البلاد وليس داخلها مما يبرر القتال ويجعله مسألة دفاع عن الأرض والكرامة.
هذا السيناريو هو ذاته ما تبناه التحالف الثنائي صالح-الحوثي قبل مقتل صالح وارتكز الاثنان عليه في إثارة الأحزاب السياسية والشارع الصنعاني عبر خطب حماسية وحشود شعبية. ولكن مقتل صالح السريع وتفكك جبهته السياسية وخذلانه من قبل أعوانه ومؤيديه أثار الشكوك في المنطق الذي يتبناه قادة الشمال باعتباره غير واقعي ولن يكتب له النجاح.
غياب الزعيم صالح من الساحة السياسية قد يفسح المجال لظهور قائد جديد وهو ما لن يسمح به الحوثيون لذا فإن التصفية والاعتقالات ستستمر لفترة طويلة وقد تشكل شرخ كبير في النسيج الاجتماعي داخل صنعاء خصوصاً وأن القبائل خسرت قوتها الاجتماعية والسياسية بعد تفتت الولاء القبلي حتى في إطار القبيلة الواحدة وتغلب المصالح المادية على عنصر الولاء إلى درجة كبيرة.
هناك العديد من العوامل الداخلية التي قد تلعب لصالح الحوثيين داخل صنعاء أبرزها ضياع هيبة القبيلة وضعف القوى السياسية الحزبية التي ما عادت تشكل أهمية ولا تملك أي دور سياسي منذ سنوات طويلة مضت وغياب التماسك الاجتماعي في ظل مجتمع تتجاذبه ولاءات متعددة بعضها مناطقية وبعضها مذهبية وبعضها سياسية. هذا الضعف والاهتراء يفسح المجال للحوثيين للعب دور الفراعنة والسيطرة الكلية على مقدرات المدينة وما حولها وهذا ما يقود إلى إحياء نظام الإمامة من جديد في مجتمع يحكمه السادة ويقدم فيه المستضعفون فروض الولاء والطاعة. فهل تعود اليمن إلى عهد الإمامة وتندثر بقايا الجمهورية؟
اقناع الشعب اليمني بالعدو الداخلي والعدو الخارجي هو ما يعمل عليه الحوثيون بكل جد ودون انقطاع وتتعاون معهم القوى الخارجية الحليفة عبر منابرهم الإعلامية ومواقع التواصل الاجتماعي. كما تتعاون أيضاً عناصر يمنية داخلية لديها ثارات قديمة مع رموز الحكومة الشرعية. لذا فإن التحالف قد يجد أمامه عراقيل عديدة في تحقيق أجندته العسكرية والسياسية في ظل مثل هذا الواقع المليء بالتناقضات.
سلاح الحوثيين ليس عسكرياً فقط وإنما أيضاً اجتماعياً وهو ما نجح فيه الحوثيون عند انطلاق ثورتهم المزيفة داخل صنعاء منذ أغسطس حتى سيطرتهم على مقاليد الحكم في 21 سبتمبر 2014 تحت مبرر حاجة الناس ومعاناتهم بعد ارتفاع أسعار الوقود وأطلق عبد الملك الحوثي خطاباته الإعلامية ليوجه الجموع الجائعة والتي تم استغلالها في معركة المواجهة مع السلطة حينها حتى تمكن الحوثيون خلال فترة قصيرة لا تزيد عن ستة أشهر من إحكام السيطرة على صعدة ثم السيطرة على دماج معقل السلفية ثم همدان تليها عمران حتى دخلوا صنعاء منتصرين.
ولكن ما فعله الحوثيون وهم خارج السلطة قد لا ينجح وهم أصحاب السلطة وفي موقع المساءلة والمحاسبة خصوصاً وأن اللوم الآن لن يوجه لقيادة المؤتمر الشعبي العام بعد أن غاب زعيم المؤتمر من الصورة . مهمة الحوثيين غدت أكثر صعوبة ليس في المواجهات العسكرية ولكن في اقناع الشعب داخل صنعاء وخارجها بأنهم يحمون مصالحه ويسعون للقضاء على معاناته. فهل الحوثيون قادرون على حماية الشعب اليمني داخل حدود صنعاء؟ وهل يغدو عبد الملك الحوثي الحاكم العادل المنتظر؟
إن القاعدة الأساسية في المذهب الزيدي هي إباحة الخروج على الحاكم الظالم، كما أن الإمامة في الزيدية ليست وراثية وإنما تقوم على البيعة وهو ما أخل به الحوثيون الذين قد انجرفوا بعيداً عن الزيدية في اتجاه طهران. كما تورث الحوثيون القيادة والسيادة لتغدو الحوثية ليس فقط حركة سياسية ودينية وإنما مذهباً جديداً يجمع ما بين مواصفات متعددة في مذاهب الشيعة من الجارودية إلى الإثنى عشرية إلى الاسماعيلية إلى العلوية.
إن توجه الحوثيين داخل صنعاء لن يديم الحكم طويلاً لهم في مجتمع تأسس فكره الديني والسياسي طوال قرون طويلة على فكر الزيدية وليس فكر الاثنى عشرية. لذا فإن إعادة إحياء المذهب الزيدي داخل صنعاء قد تمثل بداية طريق الخلاص من براثن الاثنى عشرية وقيود طهران.
أما بالنسبة للمناطق الوسطى وتحديداً تعز وإب فإن رؤيتها السياسية الحالية لا تسير بشكل متوازي مع رؤية محافظات شمال الشمال بل تتجاذبها تيارات عدة من الشمال ومن الجنوب وتفتقد للبوصلة لتحديد مسارها المستقبلي على الرغم من كونها تحتضن الأغلبية السكانية من الشعب اليمني. وهذا يسري على الواقع العسكري والسياسي في تلك المناطق مما قد يجعلها غنيمة سهلة لمن يقود الدفة داخل صنعاء. وإن كان ذلك لا ينطلي على جنوب اليمن.
الحوثيون سيستمرون في تبني خططهم الضبابية دون وجود استراتيجية واضحة لديهم وسيعتمدون أسلوب الكر والفر في مواجهاتهم العسكرية ومواجهاتهم السياسية داخل صنعاء وخارجها لضمان حصولهم على أطول وقت ممكن للبقاء على قيد الحياة. ولكن غياب الاستراتيجية سيشكل عاملاً رئيسياً في تدهورهم التدريجي والذي بدأ فعلياً بعد اندحارهم من المحافظات الجنوبية وتقهقرهم المستمر عسكرياً في مواجهة التحالف جنوباً والذي وصل إلى حدود الحديدة وشمالاً عند قمة جبل نهم ليتم تطويقهم عسكرياً بين رحى كماشة التحالف. ولكن الأهم هو اندحارهم سياسياً واجتماعياً وهو لن يتحقق إلا بمواجهة أيديولوجيتهم الدينية بسلاح مضاد يؤكد فشل تطلعاتهم وانعدام تواجد بيئة حاضنة لهم داخل صنعاء وضواحيها، حينها سيجبرون على العودة إلى ملاذهم الآمن في صعدة.