الجمعة, 12 سبتمبر, 2025

ما الذي ينتظرنا في الشرق الأوسط: ما بين عودة الإمبراطوريات والسياسة الكمية

.


توقع ما سيحدث في الشرق الأوسط لم يعد عملا للعرافين، بل المقامرين، لا سيما وأن المراهنات عالية المخاطر قد تكون المنطق الذي يحرك الصراعات في المنطقة. ولكن حتى عند المُقامرة، فعادةً ما تكون هناك توجهات تقود النتائج. وربما يكون هناك توجهين أساسيين في المنطقة يجعل البعض يقامر على أحدهما، أو ضد الآخر؛ أحدهما هو عودة الامبراطوريات والآخر هو عصر السياسات الكمية.
قد تكون عودة الإمبراطوريات هي التوجه الأوضح؛ فنهوض قوى تسعى للتوسع وفرض التغيير بقوة السلاح لم يبرز هكذا منذ احتلال العراق للكويت. 
كنا قد رأينا في السابق محاولات لاستثارة مفاهيم مثل العثمانية الجديدة كما يتضح من إشارة وزير خارجية تركيا السابق أحمد داود أغلو في كتابه "العمق الاستراتيجي" في عام 2001 "إن تركيا هي وريثة الإمبراطورية العثمانية ويجب أن تستخدم عمقها التاريخي لتصبح قوة مركزية"، وهو توجه نراه في الحرب الحالية بين روسيا وأوكرانيا والتي اعتمد الصراع فيها على أسس الهوية من لغة ودين وتاريخ.
لكن هذا التوجه أصبح أكثر وضوحا في الطريقة التي تستخدم فيها إسرائيل قوتها العسكرية في المنطقة، فهي الدولة الوحيدة التي شنت هجمات على خمس دول في المنطقة في نفس العام، ووصلت هجماتها إلى أهداف تبعد عنها 2,300 كيلومتر. هذه القدرات العسكرية ممزوجة باحتلال فعلي للأراضي في سوريا وخطط لإعادة احتلال غزة قد يفتح "صندوق باندورا" في المنطقة. فقرار الأردن لإعادة فرض التجنيد الإجباري، وهو قرار يناقض قرارها في 1991 لإلغاء التجنيد الإجباري الذي تم بعد مؤتمر مدريد، يمثل جزءاً من إعادة تقييم للأحداث التي تهدف لتغيير الوضع الراهن في المنطقة.
إن الامبراطوريات لا تبنى فقط بالقوة ، فالهوية تلعب دوراً ضخماً، وهو ما يجعل الدعم العلني الواضح لرئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو لرؤية "إسرائيل العظمى" جزءاً من هوية يهودية ما يجعل من الصعب النظر إلى استخدامه القوة العسكرية في المنطقة بمعزل هذا ذلك التوجه. إن ذلك يحدث في وقت تتخلى فيه المنطقة عن الخطاب الطائفي الذي صبغ الصراعات وفي وقت تخلت فيه إيران عن شعارات "الموت لأمريكا واللعنة على اليهود" حتى في ذروة حرب ال 12 يوماً.
المعضلة التي تواجه نشوء الإمبراطوريات، وهي معضلة واجهها البريطانيون وإمبراطوريات أوروبية مختلفة أخرى، هي نشوء فواعل ما دون الدولة وهو ما يحدث عندما تصبح القوة دون رادع. وبالنسبة لإسرائيل فإن الانتفاضة يجب أن تكون تذكيراً أن في غياب فعل للدول، سيسعى الأفراد للتصرف بمعزل عن الأعراف والاتفاقيات الدولية.
وعلى النقيض من ذلك، فإن هناك تيار آخر يراهن عليه البعض، يشمل ميولاً جديداَ للتعامل مع السياسة أقرب لمفهوم الفيزياء الكمية، حيث تتغير ديناميكية العلاقات التي تحكم الدول، والسلوك المرتبط بها، وهو ما يمكن تسميته ب"السياسة الكمية". وفي عصر السياسة الكمية هذه، فإن العوامل الجيوسياسية تتراجع تاركة القيادة للاقتصاد الجغرافي. فحين تصبح حركة البضائع والأموال والأفراد وحركة المعلومات هي العامل المحرك الأساسي، فإن الخلافات السياسية بما فيها الأيديولوجيا والهوية والتوجهات السياسية لا تصبح العامل الأساسي في تحديد علاقات الدول ببعضها البعض.
أصبحت الممرات الاقتصادية وسيلة للترابط تتجاوز الخلافات السياسية، كما أن اتفاقيات الشراكات الاقتصادية الشاملة باتت تقودها السياسات التنموية، لا التوجهات السياسية، وهذا هو التوجه السائد في الشرق الأوسط الآن. إن مبادرة الحزام والطريق ومبادرة الممر الاقتصادي بين الهند والشرق الأوسط وأوروبا (IMEC) ومشروع طريق التنمية جميعها هي توجهات تعبر الحدود، ولكن لا ترتبط بالتوجهات السياسية العابرة للحدود مثل الهوية القومية أو الطائفية الدينية. وقد بدأت الممرات الاقتصادية في تغيير وجه المنطقة أولا بالتخلي عن ثنائية "العدو- الصديق" والتي يتم بموجبها تصنيف الدول بناء على قربها أو بعدها عن توجهات الدول السياسية. كما تم استبدال المعادلات الصفرية المبنية على التنافس والتي حددت هوية المنطقة لقرون مضت لصالح معادلات التكامل والتعاون. وقد أثر تغيير تلك المعادلات حتى على مصفوفات الأمن الوطني لدول الخليج، حيث أصبحت قضايا أمن الصحة والطاقة والمناخ والغذاء على قمة الأولويات، ما يجعل تحقيق الأمن يعتمد على فتح الطرق وليس إغلاق الأسوار حيث أصبح التعاون هو أساس الأمن.
رأينا سابقاً كيف أصبحت تلك الرؤية واقعاً في المنطقة من خلال عمليات خفض التصعيد والتصالح في المنطقة، بما في ذلك الاتفاق الإبراهيمي واتفاقية التعاون بين إيران والسعودية واتفاق العلا الذي انهى الأزمة الخليجية ناهيك عن دعم الاستقرار في سوريا والتي بدأت تعيد ابتكار نفسها وعلاقاتها في المنطقة بناء على أدوات اقتصادية وليست سياسية، فالموانئ والمناطق الحرة هي الأدوات الجديدة لسوريا الجديدة وليست الإديولوجيا البعثية أو الهوية الإسلاموية.
على النطاق العالمي، رأينا ذات التوجه يتجسد في الطريقة التي تدير بها دول الخليج علاقاتها مع كل من الولايات المتحدة والصين، وأوروبا وروسيا وتطوير علاقات مع دول مثل الهند وقارات مثل أفريقيا وأمريكا اللاتينية بل وحتى الانضمام إلى تكتلات اقتصادية مثل "بريكس". جميع هذه الأمثلة تُمثل مؤشراً على تطوير نظام عالمي جديد لا يعتمد على الانتماء لقطب معين تتبنى أيديولوجياته وسياساته، ولكن خلق نظام عالمي "شبكي" يصبح فيه تسهيل الحركة عبر تلك الشبكة هو أساس وجوده.
إذا ما الذي ينتظرنا؟
أولاً، البجعات السوداء، ويمكن القول أن عصر "الغبار النووي" ربما أصبح بجعة رمادية، وليست سوداء. ففي الوقت الذي أثار فيه الهجوم بأسلحة نارية على محطة زاباروجيا الأوكرانية هلع المجتمع الدولي فإن الهجوم الإسرائيلي على مرافق فوردو وأصفهان النووية، والتي جعلت من احتمال انتشار الغبار النووي خطراً داهماً في المنطقة، لم يحظ بنفس الدرجة من الانتقاد لا من أوروبا ولا الولايات المتحدة التي شاركت لاحقا في الهجوم. ليس هذا هو الخطر الوحيد الذي نراه، بل إن التهديد باستخدام "القنابل النووية التكتيكية" بدأ يحول أسلحة "الملاذ الأخير" التي تستخدم في استراتيجيات الردع إلى ميزة تكتيكية في أرض المعركة.
وإذا ذكرنا البجع الأسود فربما يجب ذكر "الفيلة البيضاء"، وهي الفرص الضخمة التي تمر عليها ونعتقد أنها مجرد خرافة. فالشرق الأوسط اليوم بدأ يتحول إلى منطقة دون أعداء، وهو وضع لم يكن جزء من مخيلتنا قبل أعوام قليلة. فبوجود الاتفاقيات الإبراهيمية والتقارب السعودي الإيراني والتفاهمات الخليجية مع تركيا، ناهيك عن خارطة الطريق مع الحوثيين والتفاهمات في سوريا، جميعها جعلت منطقة الخليج أقرب لعالم بلا أعداء. وحتى دولياً، فإن الولايات المتحدة خلال ولاية الرئيس ترامب الثانية قد بدأت في التوجه نحو الاقتصاد الجغرافي بدلاً من الاقتصاد السياسي. وأصبحت التعرفات هي أساس النفوذ وليست البارجات البحرية، حتى الرئيس بوتين أصبح يتحدث عن ممر اقتصادي قطبي يربط بين روسيا والولايات المتحدة، ما يبشر بفتح مجال للتعاون حتى بين ما كان ينظر إليه كقطبي العداء في العالم. غير أنه، بشكل مؤسف، توجد قوى أخرى لا تزال غير مستعدة لقبول هذا العالم ولا تزال تستخدم "الأعداء" كشمال بوصلتها السياسية التي تضمن لها التواجد في الحكم.
وإن ذكرنا البجعات السوداء، والفيلة البيضاء، فيجب ألّا ننسى "العنقاء البرتقالية". حيث إن عصر الإرهاب الدولي والذي ارتبط بالجهاديين، والذي اعتقدنا أنه تم القضاء عليه قد يعود لنا من الرماد، كما تُبعث العنقاء بعد موتها في الميثولوجيا الإغريقية. وقد كان "الجهاديون" في أفغانستان حلاً أمام عجز الدول لوقف الاتحاد السوفيتي عبر القانون الدولي ومسؤولية الدول الوطنية، وبذلك جاءت الجماعات الدينية التي أفرزت الإرهاب الدولي. إن عدم وجود حدود قانونية على استخدام إسرائيل للقوة العسكرية سيبعث تلك العنقاء من الرماد. وقد بدأ الحوثيين في نفخ نفير الجهاد العالمي من صعدة ولن يستغرق الوقت طويلاً قبل أن تسعى جماعات أخرى إلى استخدام ما يحدث في المنطقة كنفير للحشد وعودة الجهاد.
قد يكون هذا النظام العالمي عرضة للتغير، وما بين المقامرون على استعادة الامبراطوريات التاريخية والمستثمرون في بناء عالم بلا أعداء يقف العالم اليوم أشبه بالمتفرج الذي قد لا ينال من رِبح المقامر، ولكنه سيخسر حتماً إذا خسر المستثمرون.


محمد باهارون
المقالة مبنية على مساهمة الكاتب في المؤتمر السنوي لمعهد الشرق الأوسط في جامعة سنغافورة الوطنية
 

محمد عبد الرحمن باهرون

محمد عبد الرحمن باهرون

المدير العام

المزيد

مجالات الخبرة

  • جيو-استراتيجية
  • السمعة والقوة الناعمة
  • السياسة العامة والعلاقات الدولية

التعليم

  • حاصل على درجة الماجستير في الأدب الإنجليزي من جامعة تكساس التقنية عام 1995.
  • تخصص اللغة الإنجليزية من جامعة الكويت عام 1987

السيرة الشخصية

 يعمل حاليا مديرا لمركز دبي لبحوث السياسات العامة (بحوث) وقد شارك في تأسيس مركز "بحوث" في عام 2002 في دبي، وهو مركز بحثي يركز على السياسات العامة والشؤون الجيوستراتيجية والعالمية ودراسات الرأي العام.

عمل نائبا للمدير في برنامج وطني المجتمعي لتعزيز الهوية الوطنية وممارسات المواطنة الصالحة منذ تأسيسه في 2005.

شارك كعضو مؤسس في مجلس إدارة "معهد بوصلة" في بروكسل الذي يهتم بالعلاقات الخليجية الأوروبية.

عمل كمحرر لمجلة العربي ومحررا في صحيفة الاتحاد، وسكرتير تحرير مجلة الدفاع الخليجي وعمل في شؤون الاتصال الاستراتيجي في المؤسسة العامة للمعارض في أبوظبي.

 مهتم بالربط بين السياسات العامة وبين التطورات السياسية الدولية والإقليمية والتأثير المتبادل بينهما.